رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تاريخ "مديرية خط الاستواء" المصرية في رواية "عتبات الجنة"

فتحي إمبابي
فتحي إمبابي

في روايته "عتبات الجنة" ــ أسطورة الإثني عشرــ والصادرة عن الهيئة العامة للكتاب٬ يكشف مؤلفها٬ فتحي إمبابي٬ عن تاريخ مجهول لفترة من أهم فترات نضال الشعب المصرى وجيشه فى قلب أفريقيا.

تدور أحداثها في فترة الثورة العرابية وما قبلها وما بعدها، مقتنصة مشهدا دالا نسيه كتبة التاريخ المأجورين عمدا، رغبة منهم في أن يهيلوا التراب على واقعة استشهاد اثني عشر ضابطا شابا من أبناء الثورة العرابية في قلب أفريقيا أو ما كان يسمى "مديرية خط الإستواء" ضمن خطة أكبر وأحقر ضد جيش يعي معنى الوطن ولا يبخل بأرواح أبنائه للحفاظ على هذا المعنى. ملحمة تعود بالقارئ في التاريخ إلى 132 عام ٬ حيث تحاك مؤامرة حقيرة لعبت فيها الخسة دورا أكيدا في استهداف الجيش المصري لتقويضه من خلال التحالف بين الخديوي " توفيق" والاحتلال الإنجليزي تمخض عنه حل الجيش بالكامل وتكوين مرتزقة من الأوروبيين.

وكان الإنجليز أكثر ذكاءا فأشار عليه ــ توفيق ـ السير " إيفلين وود" بإحالة الجيش المصري كله إلى الاستيداع وكون الإنجليز فرقتين من 12 ألف عسكري٬ واحدة لحماية الأمن الداخلي من ستة آلاف فرد والثانية من الهجانة لحماية الحدود المصرية٬ وكانت قيادات الفرقتين من الضباط الإنجليز والأوروبيين الأجانب بشكل عام. حتي ضباط البوليس كانوا من الإنجليز.

وحينما قامت الثورة المهدية في السودان والتي تمثل الإسلام السياسي ضد مؤسسة عسكرية مدنية٬ قرر الإنجليز القضاء علي الجيش المصري والتخلص منه نهائيا وأقنعوا الخديوي توفيق باستدعاء الجيش مرة أخري بعد أقل من شهرين من حله في 19 مارس٬ وأرسل توفيق أربعة " طورطات" من 13 ألف عسكري مصري قتلوا جميعا في الحرب مع المهدية والرابح في النهاية كان إنجلترا حيث ذهب اللورد " كيتشنر" واحتل السودان وقضي علي الحركة المهدية.

كانت كتيبة الإثني عشر بقيادة البطل المصرى "حواش منتصر" أحد أبطال الجيش المصرى فى فترة الثورة العرابية قد ذهبت إلي مديرية خط الإستواء في رحلة إكتشاف مشهد النيل والذي عرفه ورأه الجيش المصري مع أول حملة أرسلها محمد علي 1821 إلي السودان عبور هذة الرحلة المتخيلة من خلال النص الروائي قدمها " إمبابي " للقارئ ليري التاريخ والجغرافيا معا٬ وبعيون بطلها " حواش" وفلسفته المدهشة كما وردت علي لسانه:"في هذا العالم الضاري لن ينقذك إلا انضباطك العسكري"، وهي قبلة حياة واعتزاز وسط ما نشعر من خيبات.

أما فيما يخص الأسس الخاصة للسياسة التي أتبعها الجيش في التعامل مع تجارة الرقيق فلم يحدث على الإطلاق إن كان الجيش عائلا علي السكان او يأخذ من طعام قبائل الرعاة بالعنوة والإكراه وإنما كان يعتمد علي مصر المحروسة في كل إمداداته واحتياجاته٬ وكانت هذة السياسة المتبعة منذ اتجه الجيش المصري ـــ وكانت هناك أكثر من موجة ـــ إلي السودان سنة 1821 وصل إلى دنقلة والخرطوم وفي عام 1840 إلي عاصمة جمهورية جنوب السودان الحالية وبعدها 1871 وصلوا أوغندا.

وعلى أساس من التألف مع القبائل وإقامة الحضارة وشق الطرق كانت هذه السياسة المصرية التي يتوجه بها الحكام من أول محمد علي والخديوي سعيد مرورا بالخديوي إسماعيل والتعليمات للجيش المصري في حركته في المديرية الاستوائية وأعالي النيل إستثناء لحركة الجيوش الاستيطانية في المناطق البعيدة عنها٬ الجيش المصري كان له عشرات الحاميات في السودان كله وهذه الحاميات تكاد تشبه الوجود البريطاني والفرنسي في أمريكا مع الفارق. فالجيش المصري في علاقته بالقبائل كانت شديدة الإحترام٬ فلم يقم بالمذابح أو الاغتيال أو يحتل ويستوطن ويحل محل القبائل الموجودة كما حدث في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية من المذابح المرعبة للسكان الأصليين٬ لم يحدث أيا من هذا مع الجيش المصري والذي كان في تجانس شديد مع البيئة المحيطة به. وخاض حروبا ضد عصابات الرقيق بمباركة ومشاركة تجار الدين وإجازاتهم لتلك التجارة في شخصية القاضي عثمان أرباب.

لم يغفل "إمبابي" دور المرأة في تلك الرحلة الرواية والدور المهم الذي لعبته زوجات ضباط الكتيبة وموقف إحداهن حين رأت زوجها يخاف الموت فقالت له: "الضابط الذي لا يعلم أن الموت ظله ليس ضابطا، وإذا كنتم تريدون جيشا لمصر يجب أن تطردوا منه من يخاف الموت". ومع كل ما حملته" عتبات الجنة" من حقائق تاريخية إلا أن " إمبابي" صاغها بلغة شاعرية ذات إيقاع خاص، كاشفة عن مسار أبطالها ومن ثم عن مسار الأحداث التاريخية دون أن تطغى الوقائع التاريخية بثقلها على شاعرية الرواية٬ كما يمثل العنوان بنية دالة في الرواية، فهو ليس مجرد عتبة مهمة من عتبات تأويل النص فحسب، بل إنه أيضًا يكشف عن فضاءات دلالية متنوعة داخل هذا العمل٬ حققت صورة مشهدية لا يستطيعها إلا كاتب يمتلك حسًا سينمائيا عاليًا ويعرف كيف يصيغ مشهدا مكتوبا بعيون كاميرا حساسة تستطيع تكوين مشاهد حية تكاد ترى فيها تكوينا وظلا ونورا.