رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حين تفوض ربك للحكم فى قضيتك


حين يلهج لسانك بقول: «حسبى الله ونعم الوكيل»، فأنت بذلك ترفع قضيتك من الأرض إلى قاضى السماء للحكم فيها، حكمًا عاجلًا لا ظلم فيه، لا إبطاء فيه أو تأخير، فهو قاض كل ضعيف، وملاذ كل مظلوم، من احتمى بظله كان تحت عينه فى أمان، لم يقربه خطر، أو يمسسه ضرر.
حين تجعل الله وكيلك تظهر العجز التام له سبحانه وحده، لينوب عنك فى كل شىء فى الحياة، كبيرها وصغيرها، حين تقول «حسبى الله ونعم الوكيل»، فإنه يمدك بأسباب النصر عندما تشعر بالهزيمة، وبأسباب القوة عندما تشعر بالضعف، بيده مقاليد كل شىء، له الحكم، بيده الأمر كله، فلا تتردد فى اللجوء إليه، ولا تتأخر فى السير إليه، فإنه حسبك وكافيك من كل ما تخشى وتخاف.
«حسبى الله ونعم الوكيل» قالها إبراهيم، عليه السلام، حينما ألقاه قومه فى النار من بعد أن كاد لأصنامهم التى كانوا يعبدونها من دون الله تعالى وحطمها، فأنجاه الله من النار وجعلها بردًا وسلامًا عليه: «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ».
قال ابن عباس: «لو لم يتبع بردها سلامًا لمات إبراهيم من شدّة بردها، فلم يبق يومئذ نار فى الأرض إلا طفئت، ظنت أنها هى تعنى، فلما طُفئت النار نظروا إلى إبراهيم، فإذا هو رجل آخر معه، وإذا رأس إبراهيم فى حجره يمسح عن وجهه العرق، وذكر أن ذلك الرجل هو ملك الظلّ، وأنـزل الله نارًا فانتفع بها بنو آدم، وأخرجوا إبراهيم، فأدخلوه على الملك، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه».
«حسبى الله ونعم الوكيل»، قالها النبى، عليه الصلاة والسلام، بعد غزوة أحد حينما هزم المشركون المسلمين، فاستنفر النبى الصحابة للتجمع فى «حمراء الأسد» حتى يعلم المشركون أن المسلمين لم ينكسروا، وأنهم ما زالوا صامدين أقوياء، ونزل فيهم قول الله تعالى: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ».
«حسبى الله ونِـعم الوكيل»، قالتــها السيدة عائشة، رضى الله عنها، يوم ركبت على ظهر دابة صفوان بن المعطّل فنزلت فيها آيات البراءة والطهر من فوق سبع سماوات.
يقول «ابن القيـم» فى كتابه «زاد المعاد»: «من هذا قوله فى الحديث الصحيح للرجـل الذى قضى عليه، فقال (حسبى الله ونعم الوكيل) فقال عليه صلى الله عليه وسلم: إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل (حسبى الله ونعم الوكيل)»، رواه أحمد وأبوداوود.
وهذا يعنى ضرورة أن يأخذ الإنسان بالأسباب، حتى إذا ما أعجزته الحيل لجأ إلى ربه سائلًا منه المدد والعون حتى يحقق ما يصبو إليه ويرجوه، ولن يخذله أبدًا ما دام على الحق. والنبى، صلى الله عليه وسلم، يقول: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن».
والله سبحانه هو الذى يعرض عليك أن تتخذه وكيله فهو القائل: «رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلًا».
يقول «ابن القيم» إن توكيل العبد ربه يكون بتفويضه نفسه إليه وعزلها عن التصرف إلا بإذنه يتولى شئون أهله ووليه، ومعنى كون الرب وكيل عبده أى كافيه والقائم بأموره ومصالحه لأنه ينوب عنه فى التصرف، وتوكيل العبد ربه تسليم لربوبيته وقيام بعبوديته.
هل جربت من قبل إحساس الكفاية بالله، لو ظلمك أحد الجأ إلى ربك يكفيك «كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا»، لو لم يكن لك أحد فى الدنيا يتولى أمرك «وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا»، لو لم تجد أحدًا يقف بجانبك لينصرك «وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا»، لو بذلت جهدك ولم تحصل على ما ترجوه من نتيجة «وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا»، لو لم يقدر أحد جهدك «وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا»، لو الكل وقف ضدك «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ»، «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ».
ومن المعانى الجميلة فى القرآن أن كل مرة يذكر فيها اسم الله الوكيل أو التوكل يذكر معها دلائل قدرة الله فى ملكه وكونه فغيب السموات والأرض بيده: «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ»، فسبحان الذى يعرض ملكه على الضعفاء والمساكين «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ».
جعفر الصادق يقول: عجبت لمن فزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع: عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله عز وجل: «حسبنا الله ونعم الوكيل»، فإنى سمعت الله جل جلاله يقول بعقبها: «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ».
وعجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله عز وجل: «لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ»، فإنى سمعت الله عز وجل يقول بعقبها: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ».
وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ»، فإنى سمعت الله جل وتقدس يقول بعقبها: «فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا».
وعجبت لمن أراد الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قوله تبارك وتعالى: «مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»، فإنى سمعت الله عز اسمه يقول بعقبها: «إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَىٰ رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ».
فكل ما فى الكون يخضع له سبحانه وتعالى، أين تذهب عن ملك الله وسلطان الله، الكون المرئى «مليار أس مليار» من المجرات، وكل مجرة بها مليارات النجوم، فالكون مليارات المليارات من المجرات.
ومجرة «درب التبانة» التى يحيا عليها سكان الأرض فيها ١٤ مليارًا، الشمس نجم متوسط من نجوم درب التبانة، كل هذا الكون هو سلطان الله «يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ»، «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ».