رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصطفى نمر: بدون اسم

جريدة الدستور

- الهدوء يغلف المكان، المياه الساكنة تتحرك، كل حين وحين أشعر أحيانًا باضطراب وأحيانًا سكون كامل، لا أذكر بالضبط متى وعيت وبدأت أشعر بالحركة، الغذاء يأتى دون مجهود، والتسريبات تذهب من غير عناء والجو لطيف، أحيانًا أعمد لعمل بعض الأكروبات قتلًا للملل الموجود، وعمل بعض الفقاعات الهادئة فى الماء، أو سماع بعض الأصوات خلف الجدران المحيطة بى، بصورة عامة الجو مريح.
- بدأ المكان يضيق ويتقزم أو الطبيعة التى أخلفت الوعد وبدأت فى إنضاج جسدى الصغير، بدأت أرى يدى وقدمى وأجزاء أخرى من جسدى، الجو أصبح خانقًا ومتعبًا، والحركة أصبحت بصعوبة وبالاصطدام بالجدران المرنة التى تحوط المكان، ولكنها سرعان ما ترتد مرة أخرى؛ لتضيق مرة أخرى أيضًا.
- لا حل سوى الخروج، كل أجزاء جسدى تطالب بالخروج.. ودون إرادة منّى رأيتنى أنقلب رأسًا على عقب والماء بدأ فى الانحسار ورأسى دخل فى أنبوب ضيق ويزداد ضيقًا كلما مررت من خلاله.. أشعر بأصوات أكثر وضوحًا عمّا كانت؛ ولكن الأهم أنفاسى أصبحت ضيقة ولا أستطيع التنفس.. متى ينتهى هذا العذاب؟؟
- الأنبوب الضيق ينقبض وينبسط يدفعنى خارجًا، وأيادٍ تشبه يدى ولكنها أكبر حجمًا عملاقة تسحبنى للخارج، هناك ماء داخل صدرى يمنع الهواء عنى.. أغلقت عينى بقوة، ما هذا الضوء القوى لا أستطيع الإبصار؟ أريد هواء، أشعر بالاختناق.. متى تنتهى هذه الرحلة.. اليد العملاقة سحبتنى بكل قوتها على وضعى رأسًا على عقب وبدأت أشعر بالهواء يحيط جسدى، إنه مغاير لحركة الماء أستطيع تحريك يدى بسهولة وسرعة و..
- بدأت أشعر بلسعات على ظهرى، إنه ليس ظهرى، إنها منطقة نصفى من الخلف خرج الماء أخيرًا من صدرى ولكن اللسع مستمر.. بدأت عينى فى إفراز سائل مائى وبدأت أصرخ وأصرخ حتى توقف اللسع على منتصفى.. إننى أبكى الآن، من الذى أخرجنى لهذا الاستقبال المؤلم، أين الراحة والهدوء؟
- أريد الراحة من عناء الرحلة.. من هؤلاء العمالقة؟.. إنها ليست اليد فقط، أيادٍ تحملنى وأيادٍ تضعنى، الحركات أصبحت أكثر عنفًا وفجائية، وها هى يد أستقر عليها تدخلنى فى المياه مرة أخرى، وتدثرنى بمادة بيضاء، إنها خشنة تجرح جسدى.. الاستقرار أخيرًا.. ما هذا؟ إننى مُمدد على شىء صلب.. ماذا تفعل اليد.. تسحب المادة البيضاء المتصلة ببعضها، وتأتى بمادة صغيرة أحسها ممتلئة تضعها على منتصفى من الأمام والخلف.. وأصوات شد وجذب.. ما هذا الذى أرى؟.. أشياء عملاقة تقترب ويأتى هواء من ناحيتها، إنها تقترب وتلمس وجهى بصوت «تسء تسء تسء»، كفى.. أبكى أيضًا ويضحكون ما هذا؟!
الأصوات أوضح الآن.. أصوات ناعمة؟
- والنبى ياختى حتة من أبوه..
- ليه هو أبوه قمر كده! دا طالع لأمه..
أحاول التكلم وأفهمهم أننى لا أعرفهم وأتيت بالخطأ عند الأب والأم.. من هؤلاء؟ ولكن صوتى ليس مثلهم إنه بكاء.
- شُوفى كده الواد جعان.
- تضعنى اليد وتضمنى حتى تكاد أنفاسى تختنق.. وتخرج شيئًا كبيرًا يغطى وجهى وتضع شيئًا مدببًا فى فمى وتضغط.. ويخرُج سائل لزج ولكنه لذيذ أستطعمه وتظل تضغط ويأتى السائل أكثر ويندفع إلى فمى.. آه بدأت أشعر بالهدوء الآن.. تغمض عيناى لأعود لهدوء ما قبل الرحلة و.. خخخخ.
- صاح بأعلى صوته «الهدوم المكوية فين يا هانم عايز ألحق الشغل هتأخر؟».
- ردّت عليه زوجته ذات الأربعين ربيعًا «حالًا هجيبهالك من الدولاب».
- صاح مرة ثانية حتى كادت حنجرته تنخلع من مكانها «هو أنت لسه مجبتيهاش».
- أجابت «جايه خلاص، أمّال لو مكانش عيد ميلادك النهارده، كنت هتعمل إيه فينا؟!
- أجابها بصوت هادئ «إنتى عارفة أنا مبحبش اليوم ده بحس إن عمرى بيجرى على الفاضى وأنا معملتش حاجة».
- احتوته فى حضنها وقالت «متقولش كده إنت أحسن من غيرك عندك بيت وأولاد وحسك فى الدنيا».
-غمغم قائلًا: «اللى باقى مش كتير، نص العمر عدى من فترة».
- ارتدى ملابسه على عجَل، حتى يوفر الوقت ويتمشى إلى العمل بدلًا من ركوب المواصلات..
حياها وقبلها على وجنتيها وقال «صحى الولاد عشان يشوفوا مصالحهم.. اللى على الشغل، واللى على الجامعة».
- نزل من منزله فى ذلك الشارع الهادئ المؤدى إلى ميدان التحرير، ومن ثم التمشية على الكورنيش حتى العمل.
- انسابت الأفكار داخل عقله بلا ترتيب، فها هو يتذكر والديه وأيامه الأولى ودراسته والجيران، وصحبة الأهل والأصحاب، وحبيبته التى تربى معها وتزوجها وميلاد الأولاد أمام ناظريه وتربيتهم، وكم قاسى فى ذلك وانغمس فى حياته؛ حتى نسى نفسه وطموحاته.
- هو الآن فى عنفوان الشباب والصحة والقوة على الرغم من بلوغه الخامسة والأربعين فى صحة يحسده عليها أصدقاؤه، ولكنها ليست له، بل تبذل من أجل الآخرين.
- لم يحصل على الوظيفة التى تمناها، ولم يسكن المكان الذى حلم به، بل الأصح لم يعش الحياة، وهى التى عاشته مثل الملايين الرائحين والغادين، وانهارت أحلامه التى كان يرسمها أيام طفولته والجامعة أيضًا، عاش كالآخرين فى قطار الحياة المنطلق والذى لا يتوقف لحظه؛ ليسمح له بالتقاط أنفاسه، السعى الدائم والحركة الدءوب وإلا ستسقط من حسابات الحياة، فها هو من مكان لآخر ومن عمل لآخر ومن مشكلة لأخرى، وفى كل واحدة يسقط جزء منه داخلها، ويتلاشى تدريجيًا فى دوامات لا حصر لها.
- اليوم عيد ميلاده فقط هو اليوم الذى يشعر فيه بكل المشاعر السلبية، فقد سقطت سنة من سنى عمره المكررة، لا جديد. فقط الحمد لله على الصحة والعمل ثم دوامة ثم دوامات.
- الهدوء يغلف المكان هذا الصباح منهك القوى كالعادة، حاول تذكر أى شىء لم ينجح فقط ابتسم، لم يزره أحد منذ فترة، لا يعرف بالضبط كم مر عليه من وقت، انتشله دخول الممرضة، اطمأنت على الأجهزة المرتبطة بجسده وبلهجتها الآلية ألقت الكلام المعتاد وخرجت.
- مر يومه المكرر دون حدوث شىء يُذكر، فقط الملل يزداد، الحركة أصبحت أكثر صعوبة وكذلك دخول وخروج أنفاسه، لا يتذكر متى دخل المستشفى، فجأة سقط فى الشارع مغشيًا عليه، واستيقظ هنا، أخبروه هم بذلك، أما هو فلا يعلم متى استعاد وعيه تمامًا.
-شعور بالوحدة والإنهاك سيطر عليه، أجهزة جسده قلما تستجيب إليه، تخرج من سيطرته تدريجيًا.
الغذاء يأتى من أنبوب موصل لحلقة من جهاز مُعد لذلك، والحفاضات معدة لاستقبال التسريبات لا حل سوى الخروج، نفسه تطلب وروحه تشتاق لذلك، الدنيا على اتساعها ضاقت عليه، بل هى تلفظه لفظًا.
-ها قد مر العمر المكرر سريعًا، ويستعد الآن إلى الرحيل دون أن يترك أثرًا يذكر، صور مشوشة تمر أمام عينيه، فالأولاد كل واحد فى حياته، والزوجة لا تقدر على المجىء، فهى طريحة الفراش والعمل انتهى والآمال انتهت، ولم يبق له شىء فى الدنيا إلا ذلك النفس الداخل والخارج من صدره؛ ليدل فقط على أنه على قيد الحياة، لا شىء فى الدنيا متمسك به ولا هو متمسك بأى شىء، لحظة وداع أيضًا يودع بها نفسه كما هو حاله عندما ودع الراحلون جميعًا.
عندما حانت ساعته شعر بذلك، لم يقاوم بل ابتسم، شعور بالراحة بدأ ينتشر بروحه، وخدر بدأ يسرى فى أنحاء جسده، أغمض عينيه واستسلم لخروج الروح منه.
- حملته الأيادى ودثرته بالمادة البيضاء مرة أخرى، ومدّد على الأرض الصلبة وذهب إلى ما قبل رحلة المجىء وحيدًا.