رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قيام وانهيار الصاد شين


في سبعينيات القرن الماضى، فكر معمر القذافي في وسيلة تجد له موطئ قدم داخل مصر، وتفتق ذهنه عن ابتكار هوية الـ ص.ش أو أبناء الصحراء الشرقية (بالنسبة لليبيا، الغربية بالنسبة لمصر)، من أبناء القبائل العربية التي ترتبط بصلات قرابة مع القبائل العربية في ليبيا، في شمال الصعيد وتحديدًا الظهير الصحراوي المحيط بالفيوم وبني سويف والمنيا. وكان سبب هذا التفكير هو التوتر الذى أحاط بالعلاقة بين الرئيسين السادات والقذافي والذي بلغ ذروته في حرب الأيام الأربعة فى 1977.

وعن هؤلاء الصاد شين، الواقعين في منتصف المسافة بين مصر وليبيا، بل هم أقرب لليبيا بحكم بداوتهم، عكس أبناء وادي النيل المزارعين. كتب الروائي المصري حمدي أبوجليّل روايته (قيام وانهيار الصاد شين) والتي صدرت عن دار ميريت للنشر.

حاول القذافي استمالة هؤلاء، ففتح لهم الحدود وكيّف أوضاعهم القانونية وضمهم إلى الجيش الليبي وتحديدًا حراساته الخاصة، وتركّز الكثير منهم في مدينة سبها الجنوبية، لتصبح تلك المدينة وطنًا جديدًا مخترعًا لتلك الهوية الحديثة.

كان أبناء بدو شمال الصعيد في مصر والحدود الغربية يهاجرون جماعات إلى ليبيا السبعينيات التي كانت تمتلك اقتصاداً قوياً بفضل عوائد النفط. وسعى هؤلاء لحلم الثراء السريع في الجماهيرية، ولم يكتف بعضهم بالاستقرار في ليبيا، بل اتخذها كمحطة لعبور البحر تهريبًا إلى إيطاليا.

ومن ضمن العابرين من رحلة الموت في البحر كان (محيى)، بطل الرواية، المصري البدوى الفيومى الذي أضاع بعض السنين في ليبيا قبل أن يتمكن من العبور إلى إيطاليا والاستقرار في ميلانو، والعمل في ترويج المخدرات والممنوعات.

اختار أبوجليّل أن يخوض عدة رهانات فنية في روايته، أولها لغة السرد، العامية، وليست أي عامية، بل هي عامية بدو مصر، بخشونتها وصعوبتها على من لا يتقنها. ويتخلل هذا السرد العامي الدارج بعض الجمل والمقاطع الفصيحة. ويبدو أن تلك التركيبة اللغوية نجحت في أن تعكس بشكل حميمي وصادق وواقعي جداً تلك الحياة الصحراوية التي عاشها محيي سواء في نجعه في الفيوم أو في ليبيا أو إيطاليا.

الرهان الثاني تمثّل في تقطيع السرد إلى فصول قصيرة، ليست مرتّبة وفقًا لنسق تصاعدي، فتتخلل الحكايات (أو شظايا الحكايات) فصول تشبه المقال أو التنظير، تقطع السرد أحيانًا، كنتوء غير مبرر، ولا يمكن فهم وجود تلك الفصول في مواقعها إلا من خلال رغبة الكاتب في جعل السرد مبعثرًا كما هي حياة محيي، ولو قمنا بعمل زووم أوت فهو مبعثر كما هي حياة كل الصاد شين، ومبعثر أيضاً كما هي حياة بعض المصريين والعرب العاملين في إيطاليا دون أوراق ثبوتية وفي الظلام. باختصار يمكن القول، إن الرواية، وبهذا الحس الشفهي الكبير فيها، تشبه مسامرة بين شخصين، يقول فيها المتكلم ما يعن له ووقتما يحلو له. وفي هذا تذكير بالتقنية ذاتها التى استخدمها أبوجليل في روايته السابقة (الفاعل)، الحاصلة على جائزة نجيب محفوظ.

قامت تلك الفصول الناتئة أيضًا في نهر الأحداث، بدور منظم الوقت، لا وقت الأحداث داخل الرواية، بل الوقت السيكولوجي للقارئ، والوقت الكرونولوجي للأحداث. بمعنى أن تلك الفصول الناتئة وغير المرتبطة كليًا بالأحداث كانت تعطى الانطباع للقارئ بمرور بعض الوقت بين حدثين، بمرور شهور مثلًا بين وصول البطل لإيطاليا وحصوله على عمل هناك واندماجه في الحياة اليومية.

الملمح الثالث الذي يحدد معالم (قيام وانهيار الصاد شين)، هو هذا الرافد المعرفي الغني، المجدول جدلًا في الحكي، بحيث تعكس الرواية جوانب كبيرة من حياة مجتمعات كاملة في غرب مصر وفي جنوب ليبيا، رافد تاريخي يعكس حرص الروائي على البحث والحفر لتغذية نصه بالمعلومة. ويمتد هذا الرافد ليصل إلى الفضاء المكاني للرواية، فهو يحكى عن عدة جغرافيات مختلفة، تفصلها آلاف الكيلومترات، ما بين غيطان الفيوم وصحراء ليبيا ومياه المتوسط وغابات ميلانو، وقد نجح أبوجليّل في ذلك، مثبتاً، أن "الأدب الجيد - في أحد أوجهه - جغرافيا جيدة".
رواية (قيام وانهيار الصاد شين)، رحلة ممتعة داخلة رأس بدوي مصري، ورحلة شاقة ومثيرة عبر البلاد، لمطاردة حلم، لا يصل إليه البطل، أبداً.