رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عودة مصرية لإفريقيا



عندما فكر محمد على فى حماية الأمن القومى المصرى، ذهب بجيوشه إلى إفريقيا حيث منابع النيل الذى يعد شريان الحياة فى مصر. لم يكن تحرك محمد على آنذاك غزوًا لدولة أو احتلالًا لأوطان، ولكنه كان تأمينًا لدولته الناهضة فى ذلك الوقت.. جيوش محمد على وهى ذاهبة إلى تأمين حدودها فى قلب إفريقيا لم تقتل أو تحرق، ولكنها وتزامنًا مع وصولها، أقامت مدارس ومستشفيات واستراحات للرى وطهرت مداخل أنهار ورافقها شيوخ من الأزهر الشريف، تلا ذلك زيارات لقادة الكنيسة الأرثوذكسية التى يتبعها كثيرون فى إثيوبيا والدول المحيطة بها.
ظلت إفريقيا محتفظة بوجودها المهم على الخريطة السياسية والاقتصادية المصرية طوال فترة حكم أسرة محمد على، وكان التحول الآخر فى عهد عبدالناصر الذى ضاعف الوجود المصرى فى إفريقيا، وصدّر الثورة إلى الدول الإفريقية التى كان معظمها يقبع تحت سيطرة احتلال غربى اقتسم فيه الغرب إفريقيا، كل وضع جزءًا تحت حمايته وتاجه وجيشه.. أسروا فيه الأفراد واستعبدوهم ونهبوا ثروات أوطان إفريقيا.. صدّر عبدالناصر الثورة إلى إفريقيا وانتشرت مكاتب شركة النصر للاستيراد والتصدير فى كل العواصم الإفريقية، وكذا مكاتب مصر للطيران ووكالة «أ. ش. أ» وبدأت مدينة البعوث الإسلامية فى استقبال الآلاف من الطلاب الأفارقة.
وتأثر الوجود المصرى فى إفريقيا بحادث محاولة اغتيال حسنى مبارك فى منتصف التسعينيات، لتبدأ حالة من الابتعاد ازدادت شيئًا فشيئًا، ووصلت ذروتها عندما قرر الاتحاد الإفريقى تعليق أنشطة مصر فى الاتحاد بعد ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، لعدم فهم مسئولى الاتحاد طبيعة التطورات السياسية التى تشهدها مصر فى ذلك الوقت، منذ ذلك الحين عملت مصر على تفعيل حضورها بصفة رئيسية فى جميع المؤتمرات والقمم الإفريقية ومحاولة استعادة دورها فى القارة الإفريقية.. تحول الخطاب السياسى المصرى تجاه إفريقيا يبرز قضايا السلام والتنمية من خلال إعادة استخدام القوى الناعمة لتحقيق مكاسبها للجميع، بالإضافة إلى فتح الأبواب أمام المنتديات والفعاليات الإفريقية.
ومع بداية حكم الرئيس السيسى، ظهر جليًا حرص الرئيس على الانفتاح على القارة الإفريقية.. ويظهر ذلك فى عدد الزيارات التى قام بها الرئيس لإفريقيا منذ توليه الرئاسة فى ٨ يونيو ٢٠١٤ حتى نهاية ٢٠١٨ إلى قيامه بـ٢٥ زيارة لدول إفريقية من إجمالى ٨٦ زيارة خارجية بما يمثل نحو ٣٠٪ من إجمالى الزيارات الخارجية.
وخلال كلمة السيسى أمام القمة الـ٢٣ للاتحاد الإفريقى فى مالابو يونيو ٢٠١٤ أعلن عن تأسيس الوكالة المصرية للشراكة، حيث سعت إلى تعزيز علاقات التعاون القائمة واستشراف إمكانيات التعاون المتاحة مع عدد من الدول المتقدمة وهيئات التنمية الدولية، بهدف توفير مزيد من الموارد والدعم للأشقاء الأفارقة من خلال التعاون مع هذه الجهات فى التدريب والدعم الفنى المقدم من مصر للدول الإفريقية.. وتملك الوكالة المصرية تعاونًا ثلاثيًا مع عدد من الدول وهيئات التنمية مثل: البنك الإسلامى للتنمية - الصندوق العربى للمعونة الفنية للدول الإفريقية التابع لجامعة الدول العربية - وكالة التعاون الدولية اليابانية «الجايكا».
وفيما يتعلق بأبرز مجالات الخبرة المصرية التى تقدمها الوكالة، فإنها تتجسد فى: الدبلوماسية، النقل، الاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات، الرعاية الصحية، الزراعة، الشرطة ومكافحة الجرائم والإرهاب، إدارة المياة والرى، الكهرباء ومصادر الطاقة والدفاع والأمن.
كما يمثل منتدى إفريقيا فى دوراته الثلاث التى عقدت فى مدينة شرم الشيخ إحدى ركائز الاستراتيجية المصرية فى التحرك تجاه القارة الإفريقية، حيث شارك فى تنظيمه وزارة الاستثمار والتعاون الدولى ووكالة الاستثمار الإقليمية التابعة لتجمع الكوميسا وبنك التنمية الإفريقى، وذلك بمشاركة رؤساء الدول والوزراء وكبار المسئولين الحكوميين فى إفريقيا والعالم، علاوة على رواد الأعمال الدوليين أصحاب الاستثمارات الحالية والمحتملة فى إفريقيا وممثلى مؤسسات التمويل الدولية والخبراء والأكاديميين المعنيين بالاقتصاد الإفريقى.
وأولت السياسة المصرية قضية السلم والأمن فى قارة إفريقيا، أهمية خاصة على العديد من المستويات مثل المبادرات الرسمية والأطر التنظيمية والمساهمات الدولية، حيث تشارك مصر فى ٨ بعثات حفظ سلام من أصل ٩ بعثات على مستوى القارة الإفريقية فى كل من كوت ديفوار وإفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية والصحراء الغربية وليبيريا وجنوب السودان ودارفور ومالى.. وحسب مركز الأمم المتحدة للإعلام بالقاهرة، تسهم مصر حاليًا بأكثر من ثلاثة آلاف مصرى يخدمون تحت راية الأمم المتحدة فى عدد من البعثات بأنحاء العالم، بما يجعل مصر سابع أكبر المساهمين بأفراد نظاميين فى عمليات حفظ السلام الدولية والدولة العربية الأولى فى هذا المجال.. وتعد العلاقات الاقتصادية بُعدًا مهمًا فى إطار الاستراتيجية التى تتبناها مصر نحو التعاون مع قارتها الأم، حيث قامت مصر عبر عقود عديدة بتعزيز الشراكة الاقتصادية مع جميع الدول الإفريقية سواء على المستوى الثنائى أو الإقليمى، وقد هدفت السياسة المصرية إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع إفريقيا باعتبارها أولوية استراتيجية من خلال زيادة الاستثمارات المصرية فى إفريقيا، ولتدعيم التعاون الاقتصادى فى المجالات وثيقة الصلة بالتنمية، لا سيما فى ظل الإصلاحات فى مجال الاستثمار والتى تضمنت إصدار عدة قوانين مثل قانون الاستثمار ولائحته التنفيذية وقانون إعادة الهيكلة، فضلًا عن الإجراءات المؤسسية التى تم اتخاذها لتحسين مناخ الاستثمار.
وبعد سنوات من القطيعة التى حاول البعض فرضها، عادت مصر إلى إفريقيا بدور أقوى ووجود أفضل. واليوم والرئيس يبدأ عامًا جديدًا نستطيع أن نطلق عليه عام إفريقيا باستقبال رائع، بدءًا من إعلان أسوان عاصمة للشباب الإفريقى ومقر منتدى الشباب الدولى القادم بها، واعتباره منتدى للشباب الإفريقى واستعداد الأقصر لاستقبال مهرجان السينما الإفريقى والاحتفال بإفريقيا منذ أيام فى الدورة الخمسين لمعرض الكتاب. آلاف الأفارقة الدارسين فى جامعات مصر.. واستثمارات إفريقية مصرية متبادلة وخمسة ملايين لاجئ إفريقى فى مصر لا يقيمون فى مخيمات كباقى اللاجئين فى دول العالم ولكنهم يندمجون مع المجتمع المصرى.. مصر أيضًا أعلنت توافق رؤيتها لأجندة التنمية ٢٠٣٠ مع الأجندة الإفريقية ٢٠٦٣.
أمامنا فرصة مهمة خلال هذا العام لتسوية العديد من الصراعات فى القرن الإفريقى سواء فى جنوب السودان أو الصراع فى الصومال أو النزاعات فى بعض دول القرن الإفريقى.. أمامنا فرصة لمكافحة الإرهاب والحد من انتشار الجماعات الإرهابية فى القارة الإفريقية، خاصة العائدين من العراق أو سوريا.. وكان من أهم المبادرات إنشاء مركز إقليمى لمكافحة الإرهاب لدول تجمع الساحل والصحراء مقره مصر.
مصر عادت لتقود وتحمى قارتها السمراء. مصر التى حاول البعض تقزيم دورها عقابًا لشعب أراد تصحيح مسيرة دولته.. عادت اليوم لتصحح المسيرة الإفريقية وتقودها. مسئولية تاريخية تتناسب مع مكانة مصر وقائدها.