رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المخابرات العامة .. الجهاز الذى أنقذ نفسه من مرمى النيران..


القيادة الممثلة فى المجلس العسكرى أدركت بالطبع دقة الوضع وفداحة ما قد يحدث فأسرعت بفرض ستار تأمينى صارم حول أى شىء يمكن أن يشكل تهديداً من أى نوع، واستجابت على الفور إلى خطة ومعلومات الجهاز التى لا تقبل القسمة على اثنين.

جهاز المخابرات العامة المصرية .. ذلك الجهاز الوطنى الذى يحمل له المصريون تقديرا بالغا، والذى اكتسب سمعة عريقة فى كونه الجهاز الذى حقق الكثير من العمليات والنجاحات التى أعلن عن بعضها وبقى أغلبها وراء ستار الصمت الحديدى الذى لم يتخل عنه الجهاز طوال تاريخه، فالإعلان عن عملية أو نشاط ما كان دوما يخضع لحسابات دقيقة فى أغلبها يكون فى فعل الإفصاح ذاته غرض مهنى مقصود بذاته، وبقى الجهاز خلف رداء صمته يمارس دورا وطنيا حقيقيا طوال مسيرة أجياله المتعاقبة.

المخابرات العامة خرج رئيسها من منصبه مباشرة مع اندلاع ثورة يناير 2011 فى ثانى أيامها استنجادا به لإنقاذ النظام المتداعى، راهن نظام مبارك على سمعة الوزير عمر سليمان ورصيد الجهاز من ورائه كآخر مؤسسات الدولة التى لها رصيد وسط موجة الكراهية الكاسحة التى طالت الجميع فى ذلك اليوم الغاضب، استعان مبارك بآخر صديق قد يمكنه قيادة السفينة للوصول بها إلى أى بر والسلام فالموج العاصف بالفعل كان قد أطاح بالدولة بعيدا فى عرض البحر، وكان يمكن للوزير عمر سليمان بعد أن عين نائبا لرئيس الجمهورية أن يقود السفينة بالفعل لبر الأمان لو كان ترك له أمر القيادة وحده، لكن التداخل العارم فى قصر الرئاسة حينئذ وصل إلى مدى كان هو مصدر التهديد الحقيقى للسفينة والسبب المباشر فى غرقها، ودلالة ذلك الواضحة ظهرت للمفارقة القدرية مع الوزير عمر سليمان وهو يتعرض لمحاولة اغتيال مباشرة بعد تسلمه منصبه كنائب للرئيس، ولم تكن تلك المحاولة بعيدة عن هذا القصر الذى سيدخله سليمان ليشغل فيه منصبه الجديد ولتبدو الحقيقة أمامه بعد نجاته من المحاوله بأن المأزق بالفعل فى القصر نفسه وأن فرص النجاة تنحسر سريعا وبدأ الخروج بأقل الخسائر هو الطموح المتاح أمام الرجل الذى تمنى المصريون طويلا أن يكون رئيسا لهم.

ولأن الحديث حول قصة الجهاز وليس قصة الرجل فسنترك الوزير عمر سليمان الذى خرج من المشهد بعد أن لملم أحداث الثورة قدر المستطاع وطوى ملف نظام مبارك وأسلم الأمر للمجلس العسكرى، ورشح من جانبه اللواء مراد موافى ليكون على رأس الجهاز مع بداية عصر جديد هو الفترة الانتقالية، ومن المعلوم أن أجهزة الاستخبارات كافة تتأثر بتغير قياداتها ولو لفترة زمنية تحكمها مهارة وتفهم القيادة لمنظومة الجهاز، فحكم وفق هذا الظرف أن يدخل الجهاز مرحلة التغير الهائلة التى صاحبت إزاحة مبارك وهو فى أصعب وضع مهنى يمكنه من ملاحقة الأحداث والعمل عليها، وزاد الأمر صعوبة معايشته لفترة انهيار جهاز معلومات وزارة الداخلية وتحديدا جهاز أمن الدولة وهو المكلف بضبط الأوضاع الداخلية بنسبة كبيرة مما يمهد الساحة لما يقوم به جهاز المخابرات العامة من نشاط داخلى، فمضى الجهاز كما أسلفنا وهو فى أصعب حالاته الداخلية يواجه طريق الأمن الوعر وحده وإذا بكم هائل من تفصيلات ما كانت تقوم به الداخلية تضاف إلى مهامه مباشرة ليصبح المتغير أكبر وأعمق.

تحت وطأة هذه الظروف الضاغطة عبر الجهاز اعتمادا على رسوخ أقدامه وبيروقراطيته الصارمة هذا الظرف المركب، وأفلت مباشرة بعد ذلك من أول دفعة نيران كانت قد تطوله وسط زخم الانفلات المنظم الذى كان يجتاح البلاد فى حينه، فعملية اقتحام مقار جهاز أمن الدولة من قبل مجموعات استدعت معها صور المتظاهرين واستحضرت السخط الشعبى من ممارسات أمن الدولة ووضعت على كاهله كل خطايا النظام السابق، وكان للترويج الممنهج ضد أمن الدولة مآرب أخرى لم تنكشف فى حينها حيث الزخم الثورى ونشوة الانتصار كانا يكتسحان أمامهما أى تعقل أو وقوف للفهم والتدبر، وكانت الحالة الثورية لا تحتاج سوى المئات من شباب متحمس ومجموعة هتافات حتى تفتح الطرق الممنوعه أو يسمح بالسير عكس اتجاه صالح الوطن الذى يستقبل ثورة لا يقبل صوت يعلو فوق صوتها، وصور الهجمات العشوائية لمقار أمن الدولة مازالت حاضرة بألمها الذى زادت حدته بعد تفهم المقصود من الهجوم على مقار الشرطة والسجون وانتهى بأمن الدولة.

لكن الوحيد الذى كان يعى فداحة ما يجرى هو جهاز المخابرات العامة وقد نبه سريعا فى حينه إلى خطورة الأمر، قبل حدوثه وأثناء ارتكابه فى تكرار وإلحاح للمعنيين وأصحاب القرار لإيقاف ما يحدث وكان للتكرار والإلحاح دور فى إيقاف هذه المهزلة الأمنية وتدارك ما يمكن تداركه ومحاصرة تداعياته قدر المستطاع، وحينما حاولت تلك المجموعات التى كانت تدير خطة ممنهجة بعيدة عن عفوية الثورية التى ارتدت قناعها أن تكرر الأمر مع جهاز المخابرات العامة فى مبناها العريق، كانت المعلومات متوافرة ومرصود جميع خططها والقائمين عليها وسبل تحريك - ما يسمو ـ بالثوار فى الطريق الحرام وفى خطوات استباقية كان هذا الملف أمام أعلى قيادة فى حينه لاتخاذ ما يلزم أمام هذا التهديد عالى الخطورة، ووضع الجهاز بنفسه خططا عاجلة ومحكمة للدفاع عن مقره وما يمكن العبث فيه ولا يقبله أى فرد يعمل فى هذا الجهاز رفيع المستوى.

لكن القيادة الممثلة فى المجلس العسكرى أدركت بالطبع دقة الوضع وفداحة ما قد يحدث فأسرعت بفرض ستار تأمينى صارم حول أى شىء يمكن أن يشكل تهديداً من أى نوع، واستجابت على الفور إلى خطة ومعلومات الجهاز التى لا تقبل القسمة على اثنين فرجال الجهاز كانوا فى حينه قد أقسموا فى عملهم على يمين الولاء والحماية لمكانهم بكل ما فيه وفى الأصل هذا الكل هو للوطن وليس لأحد سلطان عليهم فيه، ولا رقيب فعلى على ما فى جعبتهم وما يمكن استخدامه فيه إلا الله.

ونجا الجهاز بهذا الترتيب الجاد والحاسم من أول دفعة نيران كانت تريد أن تنال ظهره استغلالا لانفلات مصنوع وتكرارا لمشهد حدث فى الداخلية ووجد من يبرره، لكن من استهدف لم يكن ليغادر خاسرا فى معركة أجهض فى الأساس إمكانية خوضها بل تراجع إلى الخلف قليلا يدع الأيام تمر ليتحين الفرصة المقبلة التى يمكنه فيها أن يطول مأربه، لكن هذه الجماعات التى استهدفت لم تكن لتعلم أنها بالفعل تتورط مع جهاز عمل طوال تاريخه لحساب الوطن ففهم الوطن كما لم يفهمه غيره، وأن حرفة الصمت التى يجيدها ببراعة هى الستار الرقيق الشفاف التى يخفى وراءها ضجيج وهدير ماكينات عملاقة تعمل دون كلل وتتفوق على آخرين بامتلاكها لأحدث العقول التى تدير المنظومة، وكان لمن يريد أن يضع يديه داخل سيور الماكينات العملاقة أن يتحمل ابتلاعه وخلطه وسط الخامات التى تصهر دائما لتخرج سبيكة متماسكة عنوانها صالح الوطن وحمايته ... وللحديث بقية.

■ كاتب ومحلل سياسى