رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

100 سنة سادات «8».. خططنا لاغتيال النحاس لكن العملية فشلت.. وحسين توفيق اعترف بقتل أمين عثمان بعد يومين فقط من ضبطه

السادات
السادات

بانتهاء الحرب سقطت الأحكام العرفية وكان ذلك فى سبتمبر سنة ٤٥ فخرجت إلى الحياة، إذ بسقوط الأحكام العرفية أو ما يسمى قانون الطوارئ.. يسقط حق الاعتقال.. وهذه ميزة سيادة القانون.
وهكذا عدت إلى بيتى بعد ثلاث سنوات من التشرد والحرمان.. وارتديت ملابسى وبدأت أظهر بالصورة التى يعرفنى بها أهلى وأصحابى.. صورتى التى تعودتها.
فى تلك الفترة لم يكن عندى أى عمل.. وكانت الخمسة مليمات بالنسبة لى عملة صعبة بكل معنى الكلمة.. فكنت أسير على الأقدام يوميًا من منزلى بكوبرى القبة إلى العتبة.. أى أكثر من ٢٠ كيلو.. لأنى لا أملك ٦ مليمات أجرة الترام.. ولقد نشأت على حبى للجمال فى كل شىء.. وكانت ملابسى ضمن الأشياء التى أتطلب فيها الجمال.. وكانت عندى جاكتة أعتز بها كثيرًا ارتديتها قبل اعتقالى مرات معدودة فقررت أن أبيعها فى محل من محلات وسط البلد التى تشترى الأشياء المستعملة.. وفعلا أخذنها وتوجهت إلى أحد هذه المحلات ولكن عندما أصبحت على مسيرة قدمين من المحل توقفت.. لا بد أن صاحب المحل سيتصور أنى سرقتها فليس من المعقول أن شابًا رث المنظر بهذا الشكل يمكن أن يمتلك هذه الجاكتة الوجيهة.. خطر لى هذا الخاطر وأنا أقف أمام التاجر فتراجعت وعدت إلى البيت سيرًا على الأقدام ومعى الجاكتة.. كنت أعرف أن التاجر لن يسألنى من أين أتيت بالجاكتة.. وكنت واثقًا من أنه سيشتريها منى بأى ثمن. وأن المبلغ الذى سيدفعه مهما كان ضئيلًا سوف يفك ضائقتى.. ولكنى فضلت ألا أشوه صورتى فى نظر إنسان لا أعرفه ولا يعرفنى مهما كلفنى هذا.
ولكن ماذا عن صورتى لنفسى كما أراها بعينى؟، هل هى حقًا ما أردت لها أن تكون؟..
لقد عادت حريتى.. هذا ما كان يعنيه انتهاء الأحكام العرفية.. ولكن هل أحسست أنا بالحرية كما يشعر بها سجين أطلق سراحه؟.. إن مصر ما زالت حبيسة والشعب مازال لا يملك من أمر نفسه شيئًا.
ولذلك بمجرد أن عاد إلىّ كيانى كمواطن حر طليق كان أول عمل قمت به هو تكوين الجمعية السرية.. فكيف تتحرر الذات بدون أن يتحرر الوطن؟!.
كان ذلك فى سبتمبر سنة ٤٥ ولم يمض على خروجى إلى الحياة سوى أيام قليلة.. اتصلت بعمر أبوعلى شقيق زميلى سعودى حسين وعرفنى عمر بشاب اسمه حسين توفيق اتضح أنه كان يمارس قتل الجنود الإنجليز فى المعادى قبل أن ينضم إلينا.. ولكن هل قتل حفنة من الجنود الإنجليز هو الطريق إلى تحرير مصر؟، طبعا لا.. ربما كان هذا العمل مجرد تدريب ولكن المهم أن نتخلص ممن كانوا يساندون الإنجليز فى ذلك الوقت.
وكان على رأس هؤلاء فى نظرنا مصطفى النحاس باشا رئيس حزب الوفد الذى سقط فى نظرنا منذ أن فرضه الإنجليز بقوة السلاح فى ٤ فبراير ٤٢.. فلا شىء يعادل خيبة الأمل التى يصاب بها الشباب فى زعيم كان يومًا مثلهم الأعلى.
وما زلت أذكر كيف كنا ونحن طلبة نخرج إلى الشارع مرتين كل يوم ننتظر ذهاب النحاس إلى بيت الأمة وعودته منه لنراه ونهتف ونصفق له.. كان بطلًا أسطوريًا ورمزًا فريدًا للوطنية والفداء والعطاء.. أما بعد ٤ فبراير فقد فقد كل شىء وأصبح فى نظرنا خائنًا لمصر ولشعبها يحتم علينا واجبنا الوطنى أن نزيله من طريقنا.. ولذلك قررنا التخلص منه.
كانت عادة النحاس أن يذهب فى يوم مولد النبى إلى النادى السعدى وهو مقر حزب الوفد ليلقى خطابًا بهذه المناسبة، وصادف ذلك يوم ٦ ستمبر سنة ٤٥ فخرجت أنا وبعض أفراد الجمعية السرية ننتظر خروج النحاس من جاردن سيتى إلى شارع قصر العينى حيث يوجد النادى.. كان البوليس يحرس الطريق منعًا للشغب.. فلا أحد يملك أن يمنع النحاس من إلقاء خطابه.. رغم أن أحمد ماهر كان فى الحكم والنحاس طبعًا خارج الحكم.. ولكن كانت هناك قيم وأصول يحترمها الجميع فى ذلك الوقت.
كنت قد دربت أعضاء الجمعية على استعمال القنابل اليدوية.. وكان الذى سيقوم بالعملية هو حسين توفيق.. وفعلا ألقى القنبلة فى الوقت المناسب ولكن سائق النحاس فوجئ وهو ينطلق من جاردن سيتى بعربة ترام فى شارع قصر العينى تكاد تصطدم به.. فأسرع لكى يتحاشاها.. كان فرق السرعة ست ثوان لا أكثر.. ولكنها كانت كافية. فعندما انفجرت القنبلة كان النحاس وعربته خارج منطقة الانفجار، أصابت الشظايا عربة أتوبيس بها فتيات A.T.S التابعات للقوات المسلحة البريطانية.
طبعًا كنت أنا وبعض أفراد الجمعية السرية فى مواقعنا نراقب العملية فانسحبنا فى هدوء وركبنا الترام إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير الآن) وهو على بُعد دقائق قليلة من مكان الحادث.. حيث توجهنا إلى مقهى (أسترا) مكاننا المفضل الذى كنا نعقد فيه أغلب اجتماعاتنا.
فى نفس المقهى قررنا التخلص من أمين عثمان الذى تولى وزارة المالية طوال حكم النحاس بعد أن فرضه الإنجليز فى ٤ فبراير.
ولكن لم يكن هذا هو السبب فى إدانتنا لأمين عثمان.. فلم يكن له أثر يذكر فى سياسة الوفد أو على النحاس نفسه.. ولكنه كان أكثر من صديق للإنجليز.. ومساندًا لبقائهم فى مصر بشكل لم يسبق له مثيل.
كان قد كون فى تلك الأيام نوعًا من الحزب السياسى أطلق عليه اسم (رابطة المهنة)، وهنا أحب أن أسجل للتاريخ أنه لم يكن فى مصر حزب سياسى واحد لم أدخله من باب المعرفة ربما أو من باب البحث عن منفذ نخلص به مما كنا فيه.
كان مقر (رابطة النهضة) هذه فى شارع عدلى وسط القاهرة.. وكانت لها ستة مبادئ أساسية ينص المبدأ الثانى منها على أننا مرتبطون بإنجلترا ارتباطًا حتميًا.. فقد أعلن أن مصر وإنجلترا قد تزوجتا زواجًا كاثوليكيًا.. فحتى لو تركتنا هى يتحتم علينا ألا نتركها.
هذا التصريح كان بمثابة حكم الإعدام عليه.
كان ذلك فى يوم السبت ٦ يناير سنة ٤٦ وأمين عثمان قد عاد من إنجلترا قبل ذلك بيومين وزار المندوب السامى البريطانى لورد كيلرن فى ظهر نفس اليوم وفى المساء ذهب إلى مقر الرابطة.. وكان حسين توفيق فى انتظاره عند باب العمارة حسب الخطة.. قبل أن يصل إلى المصعد ناداه حسين: «يا أمين باشا.. يا أمين باشا»، التفت إليه أمين عثمان وأطلق عليه حسين رصاص مسدسه.
كان الظلام مازال يسود القاهرة طبقًا لما كان يطبق أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان فى الإمكان أن يهرب حسين توفيق دون أن يلتفت إليه أحد، ولكن تصادف مرور ضابط طيران اسمه مرسى رأى حسين توفيق وشاهد العملية كلها ونبه الناس إليه.. فجروا وراءه.. وظل يجرى وهم وراءه حتى ازداد عددهم واشتد حصارهم ففجر قنبلة من قنبلتين يدويتين كنت أعطيتهما له وأوصيته ألا يستعملهما إلا فى حالة الضرورة.. وبعيدًا عن الناس.. وفعلا عمل بالوصية فرمى القنبلة داخل سور (صندوق الدين).. وأدى الانفجار الغرض المطلوب فانصرف عنه الناس.. وعاد هو فى هدوء إلى بيته بمصر الجديدة..
كنت فى هذه الأثناء أجلس فى مقهى قريب فقمت على أثر سماعى الانفجار لأتأكد من عدم وجود ضحايا بين الأهالى.. فلما اطمأن بالى أخذت الترام وذهبت إلى بيتنا فى كوبرى القبة.
فى الصباح قرأت خبر اغتيال أمين عثمان فى الجرائد وكيف أن المندوب السامى البريطانى استدعى له كبير أطباء الجيش الإنجليزى فى محاولة يائسة لإنقاذه.. وذكرت الصحف أيضًا ضمن تفاصيل الحادث كيف أن أمين عثمان يوم اغتياله كان ضيف المندوب السامى البريطانى الذى استقبله فى الظهر وتناول طعام الغداء على مائدته.
طبعًا لم يمر مقتل أمين عثمان بدون تدخل البوليس الذى ذهب يتحرى فى مكان الحادث فإذا بالطيار مرسى يتطوع لمعاونتهم ويعطيهم أوصاف القاتل التى انطبقت على حسين توفيق، وقد كان عندهم محل شبهة منذ أن كان يمارس قتل الإنجليز فى المعادى فذهبوا إلى منزل والده حيث كان يقيم فوجدوه على مائدة العشاء.. سألوه أين كان وقت حدوث الجريمة ولما لم يستطع الإجابة قبضوا عليه على ذمة التحقيق.
صمت حسين توفيق فى أول يوم.. وفى ثانى يوم لازم الصمت أيضًا.. وأغاظ هذا وكيل النيابة وكان رجلًا ماكرًا فأوعز إلى الصحف بالإشارة إلى أن الجريمة كانت أسبابها نسائية.. وهنا انفجر حسين توفيق واعترف.. وكان وكيل النيابة يعرف فيه طبيعته فى حب البطولة ولذلك أفلح فى الكمين الذى نصبه له. اعترف حسين بالكامل وبشكل لا يختلف عن الطريقة التى سبق أن اعترف بها (أبلر) الجاسوس الألمانى إن لم يكن أكثر اندفاعًا وعنفًا.
فى يوم ١٠ يناير سنة ٤٦ اعترف حسين توفيق ودل البوليس هو وبعض أفراد الجمعية السرية على مخزن السلاح الذى كان فى جبل المقطم.. قلت فى نفسى.. لقد انتهى الأمر تمامًا ولكن كان مازال عندى بصيص أمل فى أن يكون حسين توفيق قد أخفى أمرى عن البوليس.
ولم يطل انتظارى ففى الساعة الثانية صباحًا من ليلة ١١-١٢ يناير ٤٦ قرعوا الباب ودخلوا كما فعلوا فى سنة ١٩٤٢.. ولكن هذه المرة لم يكن هناك الإنجليز.. بارحت فراشى وذهبت إليهم.. وكان الجو قارس البرودة..
سألت:
- هل معكم أمر من النيابة بالتفتيش؟
وأجابوا: إن معنا وكيل النيابة نفسه.
وقال وكيل النيابة كامل قاويش: نعم أنا هنا بنفسى.. وأنا بنفسى الذى أحقق فى قضية اغتيال أمين عثمان.
فهمت.. فقد كان هو الذى نصب الكمين لحسين توفيق واضطره إلى الاعتراف.
فتشوا البيت حجرة حجرة، وبعد التفتيش أخذونى معهم إلى سجن الأجانب.. تمامًا كما حدث فى سنة ١٩٤٢.