رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

100 سنة سادات «7».. عملت حمَّالًا على عربة لورى.. وكنت أعيش فى جراج مسقف بالصفيح

جريدة الدستور

هربت من السجن وكانت فترة الهروب مليئة بالأحداث.. فقد كان لا بد أن أعمل لكى أجد لقمة العيش لى ولأولادى فلم يكن والدى فى وضع يسمح له بمساعدتى بأى شىء على الإطلاق.. ولذلك كان على أن أخرج للحياة فأطلقت ذقنى لأخفى ملامحى وسميت نفسى الحاج محمد.
أول ما قمت به هو أنى عملت حمالا على عربة لورى كان يملكها زميلى حسن عزت.. بدأنا أنا وسائق اللورى بالعمل لحساب تاجر اسمه غويبة كان متعهدا للجيش البريطانى فى الإسماعيلية.. وأذكر أنه فى مرة من المرات وصلنا إلى الإسماعيلية فى المساء فتكرم علينا غويبة وسمح لنا أن نبيت ليلتنا فى مكتبه على الأرض..
كان غويبة هذا مليونيرًا من أغنياء الحرب، فلما أصدر عبدالناصر قوانين الاشتراكية فى سنة ٦١ وضع غويبة أمواله تحت البلاطة، كما نقول وارتدى ملابس رثة للغاية فصدق عبدالناصر ورجاله أنه معدم فعلا.. ولم يكن غويبة فريدا فى هذا فقد فعل مثله الكثيرون من الأثرياء فى عهد عبدالناصر وقبله. فالشعب المصرى على مدى تاريخه الطويل قد تعلم كيف يخدع حكامه إذا تعارضت أوامر الحكام مع رغبات الشعب ومصالحه..
نعود إلى قصتى مع غويبة.. فى المرحلة الثانية من عملى معه عهد إلىّ بنقل الخضر والفاكهة إلى معسكر الإنجليز فى التل الكبير.. وأذكر أننى عندما سلمت أول شحنة لاحظت أنها محملة بأسوأ أنواع البرتقال..
فاندهشت ولكنى اكتشفت أن هناك اتفاقًا بين المتعهد ومسئول التموين بالجيش الإنجليزى Quarrer- Master على الغش طبعًا..
وبعد فترة طلبوا منا عدم إمدادهم بأى تموين.. فقد لجأوا إلى استيراد جميع متطلباتهم من اليهود فى فلسطين.. ربما لأنهم كانوا أكثر قدرة على الغش والرشوة من المصريين.. وربما لسبب آخر لا أعرفه ولكن بهذا توقف عملى مع غويبة..
عملت بعد ذلك فى بلدة اسمها مزغونة «بالقرب من القاهرة» وكان عملى بها أن أنقل الحجر «الدبش» من المراكب الآتية بالنيل إلى أن أصل بها إلى الطريق الذى كان فى ذلك الوقت يرصف بين القاهرة وأسوان.
كنا نعمل من مطلع الفجر إلى غروب الشمس دون توقف، وفى نهاية اليوم كنت أهرع إلى مطعم صغير حيث أتناول شوربة العدس الساخنة فى برد الشتاء القارس، بعد جهد وجوع يوم بأكمله.. فكانت أشهى طعام أكلته فى حياتى بمجرد أن ألتهمه وأحس بالشبع والدفء آوى مباشرة إلى جراج مسقف بالصفيح لأنام.
كان ذلك فى ديسمبر سنة ٤٤ ومع مجىء سنة ٤٥ انتقلت إلى بلدة أبوكبير بالشرقية وعملت فى مشروع شق ترعة رى تسمى ترعة الصادى بالمنطقة، وكان من عادة مصلحة الرى فى ذلك الوقت أن تشق ترعة جديدة كل سنة..
سكنت فى منزل غفير فى مكان اسمه عزبة طلعت أجرته منه.. وكان السقف من حطب القطن.. وفى ليلة من ليالى الشتاء أمطرت السماء مطرًا شديدًا فاخترق الماء سقف الحجرة وبدأ يتساقط فوقى.. ماذا أفعل؟
غطيت رأسى وجسمى بقماش خيمة صغيرة كنت أحملها معى دائمًا.. وتحمل قماش الخيمة المطر الذى لم ينقطع طول الليل وظل ينهمر بغزارة فوق الخيمة وأنا تحتها أسمعه يضرب القماش بعنف مما أطار النوم من عينى.. ولكن لعله التعب والإجهاد.. أو لعله صوت المطر وهو يسقط فوقى فى رتابة.. لا أعرف ولكنى نمت تلك الليلة نومًا عميقًا إلى أن طلع الصباح.. وكان الخفير يجاملنى فيقدم لى كل صباح اللبن الزبادى أو اللبن «المترد» فأتناوله.. ولم أكن أعلم أن معدتى ليست سليمة وأن اللبن بالذات من أكثر الأشياء التى تضر بها..
تم مشروع شق الترعة فوجدت نفسى مرة أخرى بدون عمل ولكن لم يطل انتظارى.. ففى بلدة سنور شرق النيل جنوب بنى سويف فى صعيد مصر وسط الصحراء القاحلة وجدت عملا واشتغلت.. كانت هناك شركة مصر للمناجم والمحاجر وهى تملك امتياز منجم الرخام الألباستر الوحيد الموجود فى هذه المنطقة.. وكان هذا المنجم يعمل أيام الفراعنة ثم أهمل إلى أن أتى محمد على فأعاده إلى العمل وبنى منه مسجد القلعة.. فى هذا المنجم عملت، وكان يبعد عن شاطئ النيل ٥١ كيلومترًا ولكن محمد على أقام استراحات كل منها تبعد عن الأخرى ١٧ كيلو.. وبقايا هذه الاستراحات قائمة وموجودة إلى اليوم..
كنت أعمل كمقاول لنقل الرخام.. وسوف تدهش إذا علمت أن الاستراحة التى بناها الملك فاروق فى الهرم لنفسه من هذا الرخام «وهى اليوم كازينو» وأن جميع رخام هذه الاستراحة قد قطعته أنا من المحجر، ونقلته بنفسى إلى منطقة الأهرامات لكى يبنى فاروق استراحته، ثم لكى يستمتع بها الشعب اليوم بعد أن أصبحت كازينو مفتوحًا للشعب.