رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جناية أم سيد.. كيف صنعت سيدة أمية التكفيري الأكبر؟

جريدة الدستور

- الدستور: تنشر مقالًا لـ«سيد قطب» يرثى فيه والدته ويكشف عن عقده تحت عنوان «أماه»

في 1940 كتب سيد قطب مقال «أماه» فى مجلة «الرسالة» وكان من أقصر مقالاته التى نُشرت فى المجلة

فى مثل هذه الأيام قبل 78 عامًا أغلق الناقد المرموق سيد قطب عليه أبواب بيته فى ضاحية حلوان، ودخل فى حالة من الحزن العميق، كان شعور بالضياع يجتاحه ويسيطر عليه، أحس بأن الدنيا توقفت والقدر يدير له ظهره، كانت مصيبته أكبر من الدموع والوجع، ولم تخرجه من تلك الحالة سوى الكتابة، فكتب مقالًا فى رثاء أمه بل فى رثاء نفسه، ووجه إليها كلمات كأنها صرخات.. فى شهر أكتوبر ١٩٤٠ كتب سيد قطب هذا المقال القصير، بل هو واحد من أقصر مقالات سيد قطب، الذى اعتاد الإسهاب وكانت مقالاته فى «الرسالة» تُفرد لها الصفحات.. ربما كان «أماه» أقصر مقالاته لكنه فى الوقت نفسه أخطرها ويستوجب التوقف عنده كثيرا، فقد زلزل الحدث كيانه وأصبح بعده «شتيتا منثورا»، على حد وصفه لنفسه.
ما كتبه سيد قطب عن أمه يعد وثيقة غاية فى الخطورة، فبعد أن تتعاطف معه وترثى لحاله وترق لمصابه وتعزيه فى مصيبته، تكتشف أنك أمام حقيقة مرعبة واعتراف مثير يتقافز أمامك من بين السطور وفوقها وتحتها، حقيقة عارية تقول إن تلك الفقيدة كانت سببًا مهمًا ورئيسيًا فيما وصل إليه ابنها الوحيد المدلل، فقد جنت عليه وحولته إلى مريض نفسى كما جنى هو على الإسلام وحوله إلى بحر من التكفير والدم.

حوَّلته إلى شخص مريض كل همه استعادة الأراضى التى باعها «الأب السفيه» لتسديد ديونه

الثابت أن «أم سيد» لعبت دورًا مهمًا ومؤثرًا وحاسمًا وممتدًا فى حياة ابنها الوحيد منذ أن وضعته فى «موشا» القرية التى ذاع اسمها بين قرى أسيوط بسبب هذا المولود الذى سمعت الدنيا صرخته الأولى فى العام ١٩٠٦.
نشأ سيد قطب فى أسرة ليست عظيمة الثراء ولكنها ظاهرة الامتياز، كما وصفها فى مذكراته، تزوج والده مرتين أنجب من الأولى «محمد قطب» ومن الثانية «حميدة» و«سيد» و«أمينة»، «حميدة تكبره بثلاث سنوات وأمينة تصغره بثلاث».. وكان سيد الصغير يشعر بميل خاص تجاه والدته وبفخر خاص تجاه أخواله، فهم أكثر عراقة من أسرة والده، بحكم أن اثنين من أخواله نالا «العالمية» من الأزهر الشريف، وهو أمر كان له وجاهته وتميزه فى ريف تلك الأيام.
كان «أبوسيد» رجلًا شديد الإسراف، وأدى به ذلك إلى بيع كثير من أطيانه وتبديد ثروته الصغيرة، وهو أمر رأت فيه الأم مقامرة بمستقبل الأسرة وخطيئة لا تغتفر، فقررت أن تنذر ابنها وتجهزه ليعيد ثروة الأسرة الضائعة ووجاهتها المفقودة.. لكن كيف جنت الأم على ابنها بتلك المهمة العائلية.. وأورثته أمراضًا نفسية قادته إلى حبل المشنقة؟!.
قبل أن نجيب من المناسب أن نقرأ أولًا ما كتبه سيد قطب عن والدته:
«أماه
من نحن اليوم يا أماه، بل ما نحن اليوم عند الناس وعند أنفسنا؟، ما عنواننا الذى نحمله فى الحياة ونُعرف به؟، إننا لم نعد بعد أسرة، ولم يعد الناس حين يتحدثون عنا يقولون: هذه أسرة فلان، بل أصبحوا يقولون هذا فلان وهذا أخوه وهاتان أختاه!.
اليوم فقط مات أبى، واليوم فقط أصبحت شتيتًا منثورًا، وإنى لأضم اليوم إلى صدرى ابنكما وابنتيكما، أضمهم بشدة لأستوثق من الوحدة وأشعرهم بالرعاية، ولكن هيهات هيهات فأنا وهم بعدك أيتام يا أماه، لقد شعرت اليوم فقط بثقل العبء وعلمت أننى لم أكن أنهض به وحدى، وأننى كنت أرعاهم وأرعاك معهم لأننى قوى بك، أما اليوم فالعبء فادح والحمل ثقيل وأنا وحدى ضعيف هزيل.
إن الشوط طويل وأنا وحدى فى الطريق، وأخى وحده كذلك، وأختاى وحدهما أيضا، وإن كنا نقطعه جميعا.. والعش الذى خلقته ستظل فراخه زغبًا مهما امتد بها الزمن، لأن يدك الرقيقة لا تمسح ريشها وتباركه، وكفك الناعمة لا تدرب أجنحتها على التحليق، وروحك الحنون لا تكلؤها فى أجواز الفضاء.
نحن اليوم غرباء يا أماه.. لقد كنا- وأنت معنا- نستشعر فى القاهرة معنى الغربة فى بعض اللحظات، وكنا نشبه أنفسنا بالشجرة التى نقلت من تربتها والتى ينبغى لها أن تكثر من فروعها لتتقى الاندثار فى غربتها.. أما نحن اليوم فغرباء فى الحياة كلها، نحن الأفرع القليلة ذوى أصلها بعد اغترابها من تربتها، وهيهات أن تثبت أغصان فى التربة الغريبة.. بلا أم!.
أماه.. لقد امتلأ حسى إرهاصًا بالكارثة قبل وقوعها، يوم لم يكن يبدو فى الأفق نذير بها، ولقد حدثت بهذا الإحساس بعض الإخوان فعجبوا من أمرى وحسبوها وسوسة الشعراء، وقد ناديتها مرارًا: أقبلى أقبلى طال انتظارى، ولكنى لم أكن أتخيل الكارثة فجيعة فيك، لقد دعوتها لتقبل وأنا قوى بك، فكم من كوارث صمدت لها وأنا معتصم بركنك الركين.
لقد تمتمت قبل الكارثة بليلتين اثنتين أقول: كم أنا فى حاجة لمن يربت على كتفى ويضمنى إلى أحضانه، ولقد دعوتنى مرة- فى دعابة من دعاباتك الحلوة- أن آوى إلى حضنك كما كنت طفلًا، وكم كنت مشوقًا لتلبية دعوتك لولا الكبرياء، الكبرياء التى أودعتها نفسى منذ الطفولة فجعلتنى أهرب من كل مظاهر الطفولة، ولو كنت علمت ساعتها يا أماه أنك راحلة لنسيت كل تعاليمك لأرتمى لحظة واحدة فى حضنك الرقيق كما كنت طفلًا.
أماه.. من ذا الذى يقص علىّ أقاصيص طفولتى كأنها حدث بالأمس القريب ويصور لى أيامى الأولى فيعيد إليها الحياة ويبعثها كرة أخرى فى الوجود؟.
لقد كنت تصوريننى لنفسى كأنما أنا نسيج فريد منذ كنت فى المهد صبيا، وكنت تحدثيننى عن آمالك التى شهد مولدها مولدى، فيتسرب فى خاطرى أننى عظيم وأننى مطالب بتكاليف هذه العظمة التى هى من نسيج خيالك ووحى جنانك.. فمن ذا يوسوس إلىّ بعد اليوم بهذه الخيالات الساحرة؟.. ومن ذا يوحى إلىّ بعد اليوم بتلك الحوافز القاهرة؟.
من ذا الذى يصوغ لى الأحلام الذهبية فى الآمال ويبنى لى قصور المجد فى الخيال فتصح الأحلام بعد لحظة ويتجسم الخيال بعد برهة؟!، لأنك تنفخين فيها من حرارة القلب وتوسوسين لها برقى الإيمان وتسكبين عليها إكسير الوجدان.
لمن أسعد درج الحياة بعدك يا أماه؟ ومن ذا الذى يفرح لى وأنا أصعد الدرج ويمتلئ زهوا وإعجابا وأنا فى طريقى إلى القمة؟.
قد يفرح لى الكثيرون وقد يحبنى الكثيرون.. ولكن فرحك أنت فريد، لأنه فرح الزارع الماهر يرى ثمرة غرسه وجهده، وحبك أنت عجيب لأنه حب مزدوج: حبك لى وحب نفسك فى نفسى!.
أماه.. عندى لك أنباء كثيرة جدا ومتزاحمة تواكبت جميعا فى خاطرى على قصر العهد بنعيك، وأنه ليخيل إلىّ فى لحظات ذاهلة أننى أترقب عودتك لأُسمعك هذه الأنباء وأحدثك بما جد فى غيبتك من أحداث، وأنك ستسرين ببعضها وتهتمين ببعضها.. وهى مدخرة لك فى نفسى يا أماه.. ولن تدب فيها الحياة إلا حين أقصها على سمعك.. ولكن هيهات فسيدركها الفناء الأبدى وستغدو إلى العدم المطلق لأنك لن تنصتى إليها مرة أخرى.. أماه.. أماه.. أماه.. ابنك المفجوع: سيد قطب.. حلوان».

أفشلت قصة حبه الوحيدة فكتب «أشواك».. وحرمته من «الحنان العاطفى» فذهب إلى العنف

هذا هو نص المقال الوحيد الذى كتبه سيد قطب عن السيدة التى جنت عليه فجنى هو علينا.. فلأسباب شخصية جدا قررت تلك السيدة الأمية أن تجهز «سيد» منذ يومه الأول فى الحياة لمهمة مقدسة، وهى أن يستعيد ما باعه والده من أراضى الأسرة وأملاكها.. دخل عليها مرة وهو صبى فوجدها تبكى بحرقة، فلما ألحّ عليها أن تخبره بالسبب، كشفت له عن أنها مقهورة على قطعة أرض باعها والده يومها ليسدد ديونه، وببراءة طفل قال لها إنه عندما يكبر لن يبيع شيئا من أرضه حتى لا يجعلها تبكى، فضمته إلى صدرها، وقالت له بجدية كاملة كأنها تخاطب رجلًا: اسمع يا سيد.. أنت المسئول عن إرجاع ما باعه أبوك.. فعندما تكبر ستذهب إلى مصر «القاهرة» عند خالك لتتعلم هناك وتبقى «أفندى» ولك راتب من الحكومة، ساعتها لازم تفتكر إنك لازم ترجّع أرض أبوك اللى باعها بسبب إسرافه وسفهه.. خليك حريص على الفلوس ولا تبذر كأبيك أو أخيك الأكبر.. وترجع معاك فلوس وتشترى الأطيان اللى خسرناها..
كانت صفقة العمر، وتفرغت الأم لإتمامها، فضغطت ليدخل ابنها المدرسة وليس الكُتاب، فقد كان تخطيطها أن يصبح ابنها من الأفنديات أصحاب المرتبات العالية، ولم ينس سيد دموعها التى سالت من جديد عندما قرر أبوه أن يخرجه من المدرسة ليلتحق من جديد بالكتاب، بعد أن قامت إدارة المدرسة فى قريته بفصل الشيخ أحمد شيخ كتاب «موشا» لأنه لا يحمل شهادة ولا يستطيع تدريس مواد الدراسة، وجاءت بأفندى بدلًا منه من خريجى مدرسة المعلمين، فأشاع الشيخ أن الحكومة رفدته لأنها تحارب القرآن، وتعاطف معه الحاج قطب إبراهيم فسحب ابنه من المدرسة، لكن الأم لم تهدأ حتى عاد سيد إلى المدرسة.
كانت الأم شخصية قوية ومسيطرة على ابنها، وربما بسبب تلك السيطرة فشل سيد قطب فى قصة الحب الوحيدة التى عاشها، فقد كان فى المدرسة الثانوية عندما أحب زميلته فى المدرسة، ولم تكن الحبيبة تتمتع بمقاييس الجمال المعهودة فى ذلك الزمان، وهى أن تكون الفتاة بيضاء البشرة ودقيقة الأنف، أما فمها فيكون مثل خاتم سليمان.. فمن وقع سيد قطب فى هواها لم تكن تمتلك أيًا من تلك المواصفات الجمالية، فقط كانت حسب وصفه «ذات طابع خاص» وهى صفة كانت تكفيه.
لكن كان على سيد أن يترك قلبه فى «موشا» ويسافر إلى القاهرة كما خططت له أمه ليلتحق بمدرسة المعلمين العليا، ولما عاد إلى قريته بعد ثلاث سنوات سأل عن الحبيبة، ولما علم أنها تزوجت انزوى فى غرفته وبكى.. فلم يكن يملك ترف البكاء أمام أمه التى طالما رددت على مسامعه عبارات الإطراء والمديح عن عبقريته وذكائه المميز ومستقبله المشرق والقمة التى تنتظره.. وكتب سيد قطب رواية عن قصة حبه الضائع سماها «أشواك» صدرت فى العام ١٩٤٧ ولم تحقق نجاحا يذكر.
كانت القمة هى شاغله منذ أن جاء إلى القاهرة، وكان على يقين بأنه سيصل إليها، فقد كانت وراءه أم لا تمل من الحديث عن عبقريته ونبوغه وقدرته على الوصول إلى المجد وتحقيق رغبتها أو قل صفقتها، وهو ما يشير له سيد قطب فى مقاله «الوثيقة» عندما يقول: لقد كنت تصوريننى لنفسى كأنما أنا نسيج فريد منذ كنت فى المهد صبيًا وكنت تحدثيننى عن آمالك التى شهد مولدها مولدى فيتسرب فى خاطرى أننى عظيم وأننى مطالب بتكاليف هذه العظمة التى هى من نسج خيالك ووحى جنانك».
كانت الأم هى مصدر الخيالات والضلالات التى ملأت عقل سيد قطب، فكانت صاحبة السطوة والنفوذ والتأثير على شخصيته، وإليها أهدى أجمل كتبه وأهمها «التصوير الفنى فى القرآن الكريم»، وبسببها ارتبكت حياته العاطفية فعاش عزبًا.. وبعد رحيلها، وباعترافه فى مقاله هذا سيطر عليه شعور بالغربة وفقد السند ولا بد أن تصدقه عندما يتكلم عن احتياجه الجارف إلى حضنها.. فهل كان سيتغير التاريخ لو نال سيد قطب هذا الحضن؟!.. وهل كان حرمانه من الحنان سببًا فى هذا العنف الذى ذهب إليه فى أفكاره ورؤاه وتصوراته وفتاواه؟!.
هل كانت حالة الغربة التى عاشها بفقدان الأم المسيطرة القوية هى التى قادته إلى أفكاره عن غربة الإسلام وجاهلية العصر وما ذهب إليه من آراء متفجرة فى كتابه «معالم فى الطريق» الذى أصبح دستور الجماعات الإرهابية ومرجعهم وسببًا فى كل الفتن التى ضربت الأمة الإسلامية وذاق العالم من ويلاتها؟.
لا نبالغ عندما نقول، بعد تحليل متأن لهذا المقال الفريد الذى كتبه سيد قطب عن والدته، إن عرّاب الإرهاب كان يعانى من عقدة «أوديب».. تلك العقدة النفسية التى كان عالم النفس الشهير سيجموند فرويد أول من كتب وكشف عن تلك الحالة التى يتعلق فيها الابن تعلقًا مرضيًا بأمه.
إن علاقة سيد قطب بوالدته يمكن أن تصبح مفتاحا جديدا لفهم تلك الشخصية المحيرة وتقلباتها النفسية المثيرة.. من ناقد أدبى ومثقف متحرر يكتب عن العرى والإلحاد ويحتفى بروايات نجيب محفوظ.. إلى منظّر للإرهاب وأب روحى لكل القتلة باسم الإسلام!.