رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بناء الإنسان.. غاية الإسلام العظمى «٢-2»


لما سقطت الراية من جعفر، حملها عبدالله بن رواحة، يقول النبى: فأخذ الراية عبدالله بن رواحة فتلكأ هنيهة، ثم شجع نفسه بأبيات من الشعر:
يا نفس إن لا تقتلى تموتى هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلى فعلهما هديت
ثم أخذ الراية بيده وقال: «يا حبذا الجنة واقترابها، طيبة وبارد شرابها».
دخل ابن رواحة فى آتون المعركة يقاتل، فجاءه ابن عمه بقطعة مشوية من اللحم، وقال له: تقوّ يا ابن رواحة، فنظر إليها والتهم منها قطعة، ثم قال: ما هذا يا ابن رواحة أمازلت فى الدنيا؟ والله ما ينبغى لك إلا أن تكون مع أصحابك ليتحقق وعد نبيك. يقاتل عبدالله ببسالة ويموت شهيدًا.
والنبى من المدينة يقول لمن معه: أخذ الراية ابن رواحة أراه يقاتل فى سبيل الله، فقتلوه، أراه الآن فى الجنة.
هذه القصة يستخدمها المتطرفون فى الإقبال على الموت، لكنه كان يفعل ذلك من أجل الدفاع عن وطنه.
يتحدث النبى عن الشهداء الثلاثة فى الجنة، فيقول: أرى زيد بن حارثة على سرير من ذهب فى الجنة، وأرى بجواره جعفر بن أبى طالب على سرير من ذهب فى الجنة، وأرى بجوارهما عبدالله بن رواحة على سرير من ذهب فى الجنة، غير أن فى سرير ابن رواحة ازورارًا عن سريرى صاحبيه، فقالوا: لِمَ يا رسول الله؟، فقال: تلكأ هنيهة.
سقطت الراية باستشهاد ابن رواحة، فيجىء ثابت بن الأقرم، فيأخذ الراية ويرفعها وينادى: يا أبا سليمان «خالد بن الوليد» قال: خذ الراية، فقال خالد: أنت أحق بها يا ثابت، أنت رجل شهدت بدرًا، وأنا كنت عدوًا لكم يوم بدر، فقال ثابت: يا خالد أنت أولى بها منى، فأخذ خالد بن الوليد الراية، يقول خالد: والله تكسر فى يدى يوم مؤتة تسعة أسياف فى اليوم السادس.
وكانت الحرب تبدأ فى الفجر وتستمر حتى المغرب، عند المغرب أخذ خالد الجيش وقال لهم: إن هذه المعركة لا تنتهى بنصر، قالوا: نعم، قالوا: فماذا ترى؟، قال: أرى أن ننسحب، ووافقه الرأى الباقون، فقال خالد: لا نستطيع أن ننسحب، فنحن إذا انسحبنا وخرجنا إلى الصحراء أبادونا. قالوا: وماذا نفعل؟.. قال ننسحب دون أن يتبعونا.
وقرر تحطيم الروح المعنوية للرومان، فالجيش يتكون من ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة وسقى، الميمنة تحل محل الميسرة، والميسرة ميمنة، والمقدمة ترجع مؤخرة، والمؤخرة تأتى مقدمة، وكل الجيش يغتسل ويستحم وينظف ثيابه، والرايات تطلى بألوان جديدة، وتكتب عليها عبارات جديدة.
تقوم خطة الخداع الاستراتيجى على إيهام العدو بأن جيشًا جديدًا وصل إلى أرض المعركة، ثم أتى بثلاثمائة من الفرسان لإثارة الغبار عند بدء المعركة، ويقول لهم، كلما ارتفع الغبار زدتم عند الله ثوابًا. وقسم الفرسان إلى ٦ فصائل، تنقض الفصيلة الأولى مع خالد على العدو، بينما الجيش كله يعلو صوته بالتكبير، ويدخل الفرسان تباعًا، وعندما تدخل آخر فصائل الفرسان لتلتحم مع خالد، يقول: يا عباد الله توكلوا على الله، ويستمر الهجوم على الروم هكذا لإثارة الرعب فيهم والارتباك.
ثم يقول خالد: يا عباد الله عودوا فتنسحب الفصائل تدريجيًا، السادسة ثم الخامسة وهكذا حتى ينسحب الجيش كله، عندئذ لن يلاحق الروم جيش المسلمين.
النبى فى المدينة يقول: أخذ الراية سيف من سيوف الله يفتح الله على يديه. فى صباح اليوم التالى أرسل جيش الروم إلى مالك بن رفلة يخبرونه بأن جيشًا جديدًا للمسلمين فى أرض المعركة، وأن الجيش القديم يستريح، واستمر الانسحاب والروم يتابعونهم، فقال قادة الروم لجنودهم: لا تتبعوهم لأنهم يجرونكم إلى كمين.
فبقى الروم فى أماكنهم، واقترب خالد من العودة بجيشه، بينما الروم ينتظرون الكمين. يدخل خالد المدينة، فتخرج النساء لاستقبال الجيش المظفر المنتصر بالطوب والحجارة! كن يهتفن يا فرار يا فرار، ظنًا منهن أن الجيش فر من أرض المعركة، «أفررتم فى سبيل الله؟». فيخرج النبى صلى الله عليه وسلم» ويفتح يديه للجيش، ويقول لا.. لا.. ليسوا فرارًا، بل هم الكرار إن شاء الله، ثم ينظر إلى خالد بن الوليد ويقول له: يا خالد أنت سيف من سيوف الله.
دخل النبى على بيت جعفر بن أبى طالب وحضن أولاده، وبكى ابنه الكبير عبدالله، فقال له: لا تبك يا بنى، فإن أباك الآن يطير مع الملائكة فى السماء، فكان كلما رأى الصحابة أولاد جعفر يقولون: مرحبًا بابن ذى الجناحين، ثم خرج النبى بالأولاد الثلاثة إلى المسلمين، وقال: من يكفل أولاد جعفر؟، فرأى ثلاثة يرفعون أيديهم كل يقول: أنا يا رسول الله، أنا يا رسول الله، يقول الراوى: والثلاثة أفقر من بعضهم البعض.