رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بناء الإنسان.. غاية الإسلام العظمى «1-2»


كل الأمم والشعوب تبحث فى تاريخها عن الأبطال من أجل القدوة، وجيل الصحابة كان- ولا يزال- هو القدوة لنا، يقول النبى، صلى الله عليه وسلم: «أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».
النبى كان معنيًا فى الأساس بالإنسان قبل أى شىء، فرسالته إلى البشرية رحمة، الهدف منها: «بناء الإنسان»، وهذا ما يتضح فى رد فعله على مقتل أحد سفرائه، وهو الحارث بن عمير، الذى حمله رسالة إلى أمير الغساسنة، فقتله وقطع رأسه.
فعندما سأله أخو الأمير: مَنْ أنت؟ قال رسول.. قال وماذا معك؟ قال معى رسالة، فنظر إليه وقال له: لعلك من أصحاب محمد.. قال نعم، فأخذه وربطه وجز عنقه.
وصل الخبر للنبى ليل يوم الخميس، فنادى: الصلاة جامعة، وكانت صلاة العشاء بالمسجد، فخطب فيهم، قائلًا: قُتل أخوكم الحارث بن عمير الأسدى من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلنتجهز غدًا بعد صلاة الفجر لقتال الغساسنة.
رد فعل سريع، فالنبى يكره الخيانة والغدر كراهية شديدة، وهو ما جعله يطرد بنى قريظة من المدينة، ويتأهب لقتال قريش عندما أرسل عثمان بن عفان إليهم فى صلح الحديبية، بعد أن احتجزوه بضعة أيام، وترددت أنباء عن قتله. لم يتأخر رد فعله فى كل الأحوال، لأنه يهتم بقيمة الإنسان، فالإنسان الذى يشعر بأن وطنه يقدره ويشعر بقيمته لديه، يزيد انتماؤه وعطاؤه، والنبى كان يعتنى جدًا بقيمة الانتماء للوطن والمواطنة.
كانت دولة الغساسنة فى الأردن، وكانت قوة كبيرة لا يستهان بها، لا يكفى فى مواجهتها هذا العدد القليل من المقاتلين (٣ آلاف مقاتل)، لكنه قرر التحرك من أجل سفيره الذى قُتل غدرًا.
فذهب يهودى يُدعى «فنحص» إلى زيد يقول له: يا زيد اذهب فودع امرأتك، وقبل أولادك فلن تراهم بعد اليوم، فإنك إن رأيتهم بعد اليوم فإن نبيك كذاب، فيقول له: إنه رسول الله ولا أعود ولا أودع ولا أوصى وأتوكل على ربى. إيمان عميق، وحس توكل على الله، وثقة كبيرة فى القضاء والقدر.
يخرج الجيش وتنطلق النساء لوداعه: «حفظكم الله.. نصركم الله.. أيدكم الله.. ردكم الله صالحين». أما عبدالله بن رواحة فيقول: «أما أنا فلا ردنى الله، لكنى أسأل الرحمن مغفرة، حتى يقولوا إذا مروا على قبرى أرشده الله من غاز وقد رشد».
يصل جيش المسلمين إلى «مؤتة»، وهو بلد معروف فى الأردن، يضم قبور شهداء الصحابة، فلما علم الغساسنة بذلك أعدوا جيشًا يتألف من ١٠٠ ألف مقاتل، وعلى الرغم من الفارق العددى الكبير لصالحهم، لكن قلوبهم كانت مملوءة بالرعب، فأرسلوا إلى ملك الروم ليرسل لهم مددًا، فأرسل إليهم ١٠٠ ألف أخرى.
جمع زيد بن حارثة الجيش، واقترح حلًا من ثلاثة: الأول: نعود إلى المدينة، ونقول لرسول الله، إن عددهم أكبر منا بكثير (٢٠٠ ألف)، لكنهم رفضوا بالإجماع.
الحل الثانى: أن نبعث لرسول الله، ونقول له: ابعث لنا مددًا يا رسول الله، لكن ليس هناك مدد آخر هذا هو أقصى ما نملك. أما الحل الثالث: نواجه، وهذا كان قرارهم بالإجماع، لكن كيف يكون ذلك؟.
وضع زيد خطة إبداعية، قال: لو دخلنا عليهم فى وسط الصحراء سيهزموننا فى دقائق، بحثوا عن قرية صغيرة يتحصنون بداخلها، بحيث يكون على يمينهم ويسارهم زرع وشجر، وفى ظهرهم بيوت، فلا يستطيعون أن يواجهوهم إلا من الأمام. نفذوا الخطة بالفعل، ودخلوا قرية «مؤتة»، فلما أتى جيش الروم والغساسنة وجدوهم متحصنين بها، وكان الجيش مصطفًا بواجهة كبيرة، فاضطروا لإعادة ترتيبه على النحو الذى أراده المسلمون فى صفوف متعاقبة بواجهة صغيرة، وبهذا عطل زيد جيش الرومان فأصبح ثلاثة آلاف فى مواجهة ثلاثة آلاف. لكنهم كانوا يبدلون المقدمة بينما الجيش الإسلامى ثابت.
تبدأ المعركة وتدور رحاها لـ٦ أيام، والغلبة فيها للمسلمين، والقتلى من الرومان أكثر من القتلى من المسلمين، فقد استشهد منهم ١٢، ومات من الآخرين ٩٦.
كان النبى فى المدينة، لكنه كان يرى ما يجرى بعلم الله، فيحكى تفاصيل الغزوة لأصحابه، يقول: «إن الله رفع لى الأرض حتى رأيت معتركهم»، ويقول: أخذ الراية زيد بن حارثة، أراه يقاتل، قتلوه شهيدًا، أراه الآن فى الجنة، ويتسلم الراية جعفر بن أبى طالب، شقيق على بن أبى طالب وأكثر الناس شبهًا برسول الله، فتتركز السهام والحراب عليه، فعقر فرسه ونزل يقاتل على ساقيه فى شجاعة نادرة، فجاء رجل من الرومان فضربه بسيفه، فقطعت يده اليمنى وسقطت الراية، فلم يلتفت ليده والتفت للراية قبل أن تسقط، فأخذها بيسراه، وجاء رجل آخر من الرومان فضربه بسيفه، فقطعت يده اليسرى، وحين وجد الراية تسقط أخذها بين عضديه واحتضنها، وجاء رجل فضربه بسيفه فى بطنه فسقط شهيدًا.
يقول النبى: وأراه الآن فى الجنة يطير بجناحين من ياقوت أبدله الله بذراعين من ياقوت، أراه الآن يسرح فى الجنة حيث يشاء يشرب من أنهارها ويأكل من ثمارها.
يقول الصحابة: فنظرنا إلى عينى النبى فإذا هما تذرفان بالدموع حتى ابتلت لحيته، فهو ابن عمه ويحبه، تساقطت دموعه بتلقائية دون جمود ولا تكلف.