رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ستون عامًا وما زلت لا أفهمك أيتها الدنيا


أوراقى الثبوتية تقول إننى أصبحت شيخًا فى الستين من عمرى، لكن عقلى يرفض التسليم بهذا الأمر، وإحساسى يغذى بداخلى هذه الحالة من الرفض والعناد.
الموظفون المجتهدون-وغيرالمجتهدين- بدأوا إجراءات تشييعى إلى التقاعد، وهذا أمر «بت أستدنيه لكن هبته لما أهابا»، فأنا لا أطيق الاستمرار فى الذهاب إلى العمل يوميًا، والامتثال لأوامر رئيسى المباشر الذى غالبًا ما كان طوال ٣٥ سنة- هى عمرى الوظيفى- «أذكى» منى، لكنى بِت أخشى أن يحولنى التقاعد إلى كائن أحفورى أو إلى ديناصور أفلت من الانقراض بأعجوبة، ثم قتله الندم لأنه بقى وحيدًا فى هذه الدنيا.
تمنيت التقاعد لأقرأ عشرات الكتب التى اشتريتها، أو تلك التى أُهديت إلىّ ممهورة بتوقيعات مؤلفيها، ولم أتمكن من قراءة سوى القليل منها، وتمنيت التقاعد كى أقرأها أو أكتب مثلها، ففى جعبتى عشرات وربما مئات من الأفكار والحكايات التى مرت بى خلال سنوات البحث عن المتاعب، ولم أجد وقتًا لكتابتها، فالصحفيون أمثالى- وهذا اعتراف لا بد منه- تصبح علاقتهم بالقراءة والكتابة غير بريئة، فهم يقرأون ما يفيدهم فى عملهم وتقاريرهم، ويكتبون هذه التقارير والتحقيقات والمقالات من أجل التميز فى عملهم، أو فى أسوأ الأحوال من أجل الاحتفاظ بوظائفهم ورواتبهم التى هم فى أمس الحاجة إليها، ولذلك فهم مع الأيام يفقدون علاقتهم البريئة بالكلمة التى كانت كل حياتهم، وهم يطرقون على أبواب صاحبة الجلالة الصحافة، لكن صاحبة الجلالة بقوانينها الصارمة، هى التى جعلتهم يفقدون مشاعر الرومانسية مع الكلمة، وجعلتهم يعاملونها معاملة الزوجة، التى قد تبرد عواطفك نحوها مع الوقت، لكنها تبقى سندك فى الحياة ورفيقتك التى لا تملك رفاهية الافتراق عنها.. ملعونة هذه المعادلة التى نقع فى أسرها طوال سنوات ممارسة مهنة الصحافة، ونتمنى التخلص منها بعد التقاعد.. لتعود الكلمة هى الحبيبة والعشيقة التى يهتز لها قلبك وتطرب لها روحك وتشحذ همة عقلك.
يقولون إن الحياة تبدأ بعد الستين، وعقلى يطمئن كثيرًا لهذه الفكرة، وأتمنى أن تكون حقيقية، فقد فقدنا القدرة على الاستمتاع بالحياة ونحن نلهث وراء أحلامنا، الزواج.. البيت.. الأولاد.. التعليم.. السكن والعلاج.. والسيارة والهواتف الذكية.. وهى أشياء استنزفتنا وأنستنا أننا بشر نحتاج إلى ميناء سلام، نحتاج إلى أن نشعر بزوجاتنا وأولادنا.. ونحتاج أن نستمتع بما جنت أيدينا من بيت وسيارة وأجهزة إلكترونية نلهث لتجديدها واستبدالها كلما غمروا السوق بجيل متطور منها.
نعمل لساعات طويلة ولأيام وشهور وسنين من أجل جمع المال، وعندما يمر العمر أو يتسرب من بين أيدينا نشعر أننا لم نستمتع بالثمار التى حرثنا الأرض وزرعناها ورويناها.. لكن مع شديد الأسف لم نجد الوقت الكافى لنتذوقها ونستمتع بها.
هل يتغير كل هذا بعد الستين والتقاعد؟!، أتمنى من كل قلبى أن تكون الإجابة نعم، وإلا سيصيبنى مزيد من الإحباط عندما أدرك أننى أضعت عمرى عبثًا، تمامًا كما فعل «سيزيف» حامل الصخرة فى الأسطورة اليونانية الشهيرة، حيث أضاع هذا الأبله عمره، صاعدًا إلى الجبل وهو يحمل صخرته ليضعها على القمة، وسرعان ما تسقط الصخرة إلى سفح الجبل، فيحملها مرة أخرى إلى القمة لتسقط من جديد، فيعاود الكَرَّة.. مرة تلو المرة، لتؤكد الأسطورة أنه ليس هناك عقاب أبشع من العمل الروتينى والذى لا أمل منه، حتى لو كان ذلك عقابًا من السماء كما تقول الأسطورة.
هل فهمنا الناس خلال هذه السنين؟.. هل فهمونا؟، هل اكتسبنا محبتهم وودهم وصداقتهم؟. فى طفولتنا كنا نعتقد أن كل من شاركنا فى لعبة أو تبادلنا معه قطعة حلوى هو صديق العمر، نشتاق إليه ونحزن لفراقه خلال شهور العطلة الدراسية، وعندما كبرنا ووصلنا إلى شرخ الشباب، صرنا أكثر سذاجة واعتقدنا أن كل من شاركنا سهرة أو مغامرة، هو نعم الصديق والرفيق، صرنا نعتقد أن كل من شاركنا حلمًا أو طموحًا، أو قرر أن يسير معنا فى حلم مشابه، هو صديق إلى الأبد.. وبعد التخرج وبداية الحياة المهنية والمنافسة والغيرة، بدأت أوراق الصداقة تتساقط، وكأن الخريف قد جاء قبل الأوان. كلما نجحت كثر حسادك. وكلما تعثرت كثر من ترميهم بغيرتك وحسدك. وعندما تصل إلى هذا العمر تكتشف أنك محظوظ لو ظللت محتفظًا باثنين أو ثلاثة من أصدقاء الطفولة والشباب والكهولة.. فالباقون قذفتهم رياح الغيرة أو حتى رياح الغرور بعيدًا.. هل كتب عليك أن تعود كما بدأت وحيدًا، إلا إذا كنت نجحت فى أن تحول زوجتك وأبناءك إلى أصدقاء حقيقيين؟.
الدنيا تتغير على مر السنين ونحن أيضًا، ولا نعرف سر تغيرنا أو تبدل دنيانا، لماذا نحب ونهيم شوقًا؟، ثم يأتى اليوم الذى ترفض فيه عقولنا من أحبتهم قلوبنا؟.. فلا نحن قادرون أن نحب بعقولنا، ولا نحن قانعون بمن اختارتهم قلوبنا.
على مر السنين تصبح المعانى كالفرضيات أو النظريات العلمية، قابلة للتغير رأسًا على عقب، ومن أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ما كنت أطمح إليه بالأمس البعيد وأعتبره حلم حياتى، يبدو اليوم ضئيلًا هزيلًا. وكلما بحثت عن حلم أكبر تضاءل الحلم مع الأيام خاصة إذا أصبح ملء يديك.
أمس كانت قصيدة مديح لا تهز شعرة فى رأسى، واليوم كلمة شكر واحدة تشعرنى بأننى ملكت الدنيا وما فيها.
نظرتى للمال تغيرت وكذلك نظرتى إلى الحب والطموح ومهنتى التى مارستها بكل كد وإخلاص، ثم اكتشفت أننى كنت أحرث الماء فلا أنا غيرت الدنيا، ولا أعدت ترتيب الكون، ولا جئت بما لم يأت به الأوائل!.
بمرور السنين يتغير كل شىء حولك، وأنت لا تملك تفسيرًا كاملًا لكل هذه التغيرات، كيف أصبحت تحب عكس ما كنت تهوى وتعشق ما كنت تكره؟، كيف أصبحت أقل اندفاعًا نحو ما تبقى من أحلامك؟، كيف أصبحت تتقبل أشد النوائب بهدوء.. هل هو إدراكك بأنه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه؟، أم يقينك بأن البقاء ليس للأصلح وإنما لمن يملك مقومات المرور حتى لو لم يكن الأمهر؟.
عشرات- وربما مئات الأسئلة- تعصف بذهنك دون أن تمتلك لها إجابة، ولكنك تدرك ولأول مرة أنك عشت سنوات طويلة ولم تفهم حقيقة حياتك، أو حقيقة دنياك، وأن القدر منحك فرصة أخرى أو أخيرة، لكى تعيد ترتيب أوراقك بهدوء، بعيدًا عن الصراعات أو أى جموح أو طموح.. باختصار هى فرصة أخيرة لكى تستمتع بالحياة التى أهدرتها فى معارك لا تمتلك- مهما كانت قوة إرادتك- أن تفصل فيها وحدك، ووفقًا لما يتراءى لك، فالقدر شريك رئيسى فى كل خطواتك.. شئت أم أبيت وهو الوحيد الذى يملك القول الفصل فى كل معارك حياتك.
ليتنا فهمنا هذا مبكرًا.