رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مؤامرة لرفض عودة اللاجئين السوريين


الذين أشعلوا النار فى سوريا فى ٢٠١١ يرفضون اليوم، وبعد سبع سنوات من الموت والخراب والتهجير أن يعترفوا بأنهم خسروا الرهان، وأن ملياراتهم الكثيرة التى أنفقوها من أجل تقسيم هذا ‏البلد العربى المهم جغرافيًا وعسكريًا واستراتيجيًا ضاعت سدى، وأن الرئيس بشار الأسد- سواء كنت معه أو ضده- يوشك أن يعلن انتصاره النهائى فى هذه الحرب التى خاضها بمساعدة حلفائه ‏الروس والإيرانيين.‏
أنا مثل ملايين من العرب، لست مع أى طرف من أطراف الأزمة، وأنحاز بشكل واضح إلى الشعب السورى الذى قاسى الويلات خلال السنوات السبع العجاف، وتعرض ١٣ مليون مواطن منه ‏إلى التهجير الداخلى والخارجى على السواء، وهو ما يمثل حوالى ٦٠ فى المئة من عدد السكان قبل الحرب، وهى نسبة نزوح لم تشهدها دولة من قبل.‏
وقد رأينا طوال سبع سنوات من يصرخون بأن ما سمى بالثورة فى سوريا، قامت من أجل نصرة الشعب السورى، ومن أجل الديمقراطية والحرية، ناسين أو متناسين أنهم من أجل تحقيق هذا ‏الهدف المزعوم، غضوا أبصارهم عن مأساة الشعب، وتحالفوا ومولوا أشد التنظيمات المتطرفة فى العالم، وهى القاعدة وداعش، ودربوا إرهابييها ومولوهم بالمال والعتاد واشتروا النفط منهم بصورة ‏غير شرعية، وفتحوا لهم منابر إعلامية ضخمة فى أكبر وسائل الإعلام الدولية.. وكانت صرختهم الكبرى أن الأسد لا بد أن يرحل حتى يعود الأمن والسلام إلى سوريا وحتى تعم الديمقراطية.‏
واليوم يحاول سماسرة وممولو ما يسمى بالثورة السورية، جاهدين- أو يائسين- إطالة عمر هذه الحالة الفوضوية، من خلال رفض عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، بزعم أن الرئيس الأسد سوف ‏يسىء معاملتهم ويعتقلهم فى سجونه، وهذا ليس غريبًا على تجار الموت والفوضى، الذين لا يهتمون أبدًا بمأساة ملايين السوريين، الذين هدمت الحرب مدنهم وقراهم، وأطلقت أكبر موجة تهجير ‏عرفها العالم.‏
من أكبر الدول التى أعلنت بشكل صريح رفضها أى اقتراح بشأن إمكانية بدء عودة ملايين اللاجئين السوريين لديارهم، هى فرنسا التى زعمت حكومتها أن أى مقترح فى هذا الصدد هو بمثابة ‏‏«ضرب من الأوهام».‏
وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية، أنييس فون دير مول، مؤخرًا «إن الظروف لم تتهيأ بعد للعودة، نظرًا لمعاملة الأسد للذين عادوا بالفعل، واحتمال شن هجوم على منطقة تسيطر ‏عليها المعارضة فى شمال سوريا».‏
وفرنسا ليست الدولة الوحيدة التى تتخذ هذا الموقف الذى يتبناه كل الذين أشعلوا الحرب هناك، والذين أثاروا أكبر فتنة داخل الجيش العربى السورى، عندما أنشأوا فى البداية ما سمى بالجيش الحر، ‏وجعلوا الجنود السوريين يقومون بإراقة دماء إخوتهم فى الوطن وفى السلاح، وقد أدرك الجميع أن لعبة ما يسمى بالجيش الحر كانت الخطوة الأولى فى الخدعة الكبرى، حيث سرعان ما تراجعت ‏أخباره لتنفرد التنظيمات الراديكالية المتطرفة بالساحة.. وكانت النتيجة مقتل أكثر من نصف مليون سورى وتشريد ٥.٦ مليون مواطن خارج سوريا، فيما نزح ٦.٦ مليون آخرون داخل بلدهم. ‏
لم يتباكَ أنصار الديمقراطية والحرية المزعومتين على أكبر موجة للإرهاب انطلقت على أرض سوريا والعراق، أسفرت عن إعلان قيام دولة للإرهاب عاصمتها الرقة، لم يذرفوا الدمع على ‏مئات الآلاف من السوريين، الذين سالت دماؤهم، ولا الملايين الذين قتلهم الفقر والعوز فى معسكرات اللاجئين، لم يهتموا بأجيال من الأطفال فقدوا حقهم فى التعليم وفرصهم فى مستقبل أفضل، فقط ‏اهتموا بشعارات براقة عن الحرية والديمقراطية، وهم يعلمون جيدًا أنها قولة الحق التى يراد بها باطل.. فبماذا يستفيد ١٣ مليون لاجئ يبحثون عن لقمة العيش فى طوابير المعونات أو فى سلال ‏القمامة من هذه الشعارات؟!، وهذا ليس كلامى بل كلام الأمم المتحدة نفسها التى قالت فى تقرير لها خلال العام الماضى إن النازحين السوريين فى لبنان- على سبيل المثال- باتوا أكثر ضعفًا من أى ‏وقت مضى، إذ يعيش أكثر من نصفهم فى فقر مدقع، فى حين يعيش أكثر من ثلاثة أرباعهم تحت خط الفقر.‏
وإذا كان الحديث ينصب دائمًا عن الجوع والعوز وبرد الشتاء القاتل الذى عانى منه ملايين اللاجئين السوريين، فقد كشفت جريدة «فاينانشيال تايمز» البريطانية عن بعد آخر للأزمة، وهو التزايد ‏الكبير فى مشاعر العداء تجاه اللاجئين السوريين فى تركيا ولبنان والأردن، وهى البلدان التى تستضيف أكبر عدد منهم، بسبب تراجع الأوضاع الاقتصادية فى المنطقة.‏
كل هذا يتجاهله الذين أشعلوا الحرب فى سوريا، والذين سعوا لتقسيمها وفقًا لسيناريو تقسيم الشرق الأوسط، فلا موت اللاجئين يهز شعرة فى رءوسهم ولا الفقر والعوز والقهر تهمهم، ما يهمهم هو ‏أهدافهم السياسية القذرة، التى تكتسى بكلمات براقة وطنانة.‏
لا أعتقد أن هذا الفصل الأخير من سيناريو المؤامرة على سوريا، سوف يؤتى ثماره أيضًا، رغم التركيز الإعلامى الشديد عليه، فاللاجئون السوريون الذين ذاقوا المهانة فى معسكرات اللاجئين ‏سيفضلون أن يعودوا إلى بلدهم، وأن يعيشوا- أو يموتوا- كرامًا.. وسيتذكرون دائمًا أن نصف ما أنفق على حرق بلدهم كان كافيًا، لأن يحولها إلى جنة من جنان الله على الأرض.‏