رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شهوة النقاب ‏


فى المرة الأولى التى كنّا كلنا شهودًا عليها أصيب «محيى» باحتقان مزمن فى خصيتيه، وراح يكتم صرخات ألم مخجل أجبرنا على الخروج وراءه من سرادق العزاء بحثًا عن مُهدئ لهذا الشىء الذى ‏يليق بمراهق صغير وليس بباحث شاب فى مركز للدراسات السياسية!.‏
فى البداية قال إنه القولون، ثم زعم أنه مغص كلوى، لكنه فاجأنا جميعًا على باب الأجزاخانة بأن الألم بين فخذيه، وأن السيدة المنتقبة التى انتظرتنا على مدخل القرية وركبت معنا فى السيارة نصف النقل ‏وجلست فى مواجهته هى السبب!، ولم نتذكرها بالطبع، لكنه ضغط على كف يدى متألمًا: «عينيها تجنن يا صاحبى.. غصب عنى»، ونصحنا الصيدلى الشاب برفع ساقيه لأعلى مؤكدًا أنه سيرتاح، ولم نجد ‏مكانًا يناسب هذا الفعل، فنحن مجرد ضيوف جئنا إلى محافظة الشرقية لتأدية واجب العزاء فى وفاة والد أحد أصدقائنا، واجتهد صديقنا إسماعيل فى البحث حتى عثر على مقهى خالٍ تمامًا من الزبائن ودخلنا ‏و«محيى» يتحامل على أكتافنا، فمدّ القهوجى المقاعد وساعدنا حتى أجلسناه ونام على ظهره ورفعنا ساقيه، والقهوجى يردد: ألف سلامة يا بهوات، تلاقيه برد فى المعدة أو كل شطة كتيرة، وهدأ زفت الطين ‏وقال «الحمد لله.. الحمد لله»، وضربناه وشتمناه وضحكنا وعدنا إلى القاهرة وتفرقنا حتى جمعنا المترو فى طريقنا لمعرض القاهرة الدولى للكتاب بعدها بسنوات، ووقف «محيى» فى مواجهة سيدة منتقبة ‏لا يظهر منها إلا عينيها وإذا به يتسمر أمامهما ساهمًا سارحًا غير مهتم بما نقول وبما يدور، وتغامزنا وتذكرنا واقعة الشرقية، لكن الموقف استمر وكل ركاب عربة المترو صوبوا عيونهم نحو هذا المشهد ‏وانتبهنا للحرج الذى نغرق فيه، فتزحزحنا بأقدامنا وأصابعنا التى تمسك بالمقابض الجلدية الساقطة من سقف المترو حتى أصبح «محيى» خلفنا كأننا لا نعرفه ولا نعرف أهله ولا شفناه قبل كده، أصابنا يأس ‏منه فهو مريض بلا أدنى شك، وقررنا الانصراف عن صداقته فهو خطر غير مأمون الجانب، اتفقنا على ذلك فور نزولنا من المترو متجهين إلى المعرض ونحن نخشى نوبات الألم الفاضح التى انتابته فى ‏موقعة الشرقية السوداء.‏
ولم يكن محيى وحده المصاب بفتنة النقاب، فقد تقابلنا فى ميدان التحرير، ليلة تنحى مبارك تحديدًا، بصديقنا ياسر فؤاد الذى سافر منذ تخرجنا فى الجامعة وعمل محاضرًا للفن التشكيلى بعدد من معاهد ‏إيطاليا، وأصبحت زياراته للقاهرة قصيرة ومتقطعة يقضيها فى شقة بجاردن سيتى مع زوجته الإسبانية الراقية والبديعة الجمال والشرقية الطابع والتى تدير قاعة لعرض اللوحات الفنية فى روما، وقد ‏استقبلتنا فى بيتها وطبخت مكرونة معجونة وتعاملت معنا بكل لطف وذوق، وفوجئنا ذات يوم بفؤاد يعترف فى جلسة صفا بأنه يتمنى علاقة عاطفية مع منتقبة!، وبالفعل وجدناه يومًا قادمًا علينا وخلفه منتقبة ‏تجر ذيول الخجل الأنثوى فى دلال، ولا يظهر منها سوى عينين سوداوين برموش طويلة وكحل يزينهما، ومع ذلك وقفنا مصلوبين نحدق فيهما فتأخذنا إلى عالم سرى ممتع، وجلسنا صامتين بعد السلام نتبادل ‏النظرات فى ذهول وهى تفرك كفيها فركًا طريًّا ولذيذًا وعطرها يفوح، ورحبنا بها بعد أن استوعبنا الموقف، وضحكنا، وشتمنا صديقنا فؤاد شتيمة بالأم والأب بعد انصرافها لما فعل بنا وبنفسه، وتذكرنا ‏ملامح زوجته الطيبة وتصعبنا على حالنا ونحن نتذكر ملامح زوجاتنا ونتعجب أكثر من صمودنا أمام فتنة النقاب!، ولا تظن أن هاشتاج «حرق النقاب» الذى أطلقته السعوديات منذ أيام بعد هاشتاج سابق ‏بعنوان «النقاب وصمة عار» سيمر مرور الكرام على المفتونين بالمنتقبات!، فهؤلاء سيقاتلون- ومعهم محيى وفؤاد بالطبع- لآخر نفس كى يستمتعوا بشهوة السيد مع الجارية!، سيرفعون المصاحف على ‏أسنة الرماح دفاعًا عن بقاء كتلة اللحم فى الشوال وتحت النقاب والخمار، فهذا مكمن الفحولة الإسلامية والعلمانية والليبرالية أيضًا، ستجد نعيقًا باسم الحرية ونعيقًا باسم الدين ونعيقًا باسم الشهوة الحرام، ‏وسيتفاءل البعض، فسقوط النقاب فى السعودية يعنى قطع جذر الشجرة المسمومة التى مدت فروعها الجافة إلى مصر، ولكن ترسانة الشهوة والجنس ستكون أقوى، فاختراع النقاب والخمار وتحويل النساء ‏إلى كائن «حرام» جاء من تلك الجماجم التى ترى المرأة شهوة وجسدًا وليست عقلًا ولا وجودًا، وهؤلاء لا يستحقون العيش على أرض حكمتها حتشبسوت ونفرتيتى وشجرة الدر، فمصر كما هو معروف ‏ليست الصحراء التى يشتهى الرجال مضاجعة الحيوانات فوق رمالها الساخنة، ولم تعرف حجابًا إلا فى دولة العلم والإيمان الساداتية، أما اختراع النقاب فأخذ فى الظهور منذ الثمانينيات وانتشر فى التسعينيات ‏مع مضخة المشايخ والدعاة الجدد، إلا أنه ظل غريبًا مريبًا علينا نحن المصريين الذين سبقنا البشرية كلها لعبادة رب السموات والبحث فى أسرار الكون والحياة والموت، لكن أموالًا ضخمة كانت تغذى ‏التيارات الدينية ظلت تحمى «النقاب» وتفتح له المحلات التجارية وتصنع له أرضًا خصبة بين فقيرات القرى وجمعيات رعاية الأيتام والمطلقات، وحدث ما تعرفونه من اكتساح العادات الخليجية لأرض ‏المحروسة وشوارعها، كانت المدارس الإعدادية والثانوية هى الأخرى قد سمحت بدخول المنتقبات وتبعتها الجامعات ومُدنها السكنية، حتى تم ضبط شاب داخل مدينة الطالبات فى وضع غير أخلاقى مع ‏إحدى الطالبات، واتضح أنه كان يختبئ كل ليلة خلف «النقاب»، وأنه ليس الوحيد الذى يستخدم نفس الحيلة!، وأثيرت القضية فى الصحف وظهرت على السطح عشرات الوقائع المشابهة، ونشر محمود ‏صلاح فى «أخبار اليوم» سلسلة متتالية لجرائم الجنس والزنا خلف النقاب، لكن قوة تأثير الأموال التى تدعم وتمول الجمعيات السلفية كانت أقوى، ولم يعد بمقدور أحد أن يستوقف منتقبة ليسألها إن كانت ‏رجلًا أم شبحًا، حتى جاء عام ١٩٩٦ ليحمل مفاجأة كبيرة حين رفض وزير التعليم حسين كامل بهاءالدين دخول تلميذة منتقبة إلى مدرسة فى الإسكندرية، وتحول الموقف إلى أزمة تستوجب حديثًا مطولًا نعود ‏إليه إن كان فى العمر بقية.‏