رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مراجيح الصحافة وكرة القدم


أحيانًا يا أخى أعثر على الفلسفة فى قلب الهلفطة، فالشاعر الذى كتب أغنية «الدنيا زى المرجيحة» اختصر عبقرية علماء الفلك والفلاسفة وهو يعبر عن تقلبات الحياة وتموجاتها من حال إلى حال، ومع ذلك فهو مؤلف مجهول لا تتوافر عنه معلومة واحدة، وكل الذين ركبوا المرجيحة غناءً ورقصًا وتنطيطًا تجاهلوه فلم أعثر على اسمه، وإن كنا سنتعرف على بعضنا من خلال هذا المقال، فعليك أن تركب معى هذه المرجيحة: اقبض بيديك اليمنى واليسرى على السيخين الحديدين وثبت قدميك جيدًا فى الصندوق واصعد لأعلى قليلًا لترى معى كتابًا بعنوان «١٠٠ سنة غنا.. الأغنية السياسية» متجاورًا مع كتاب آخر عنوانه «الملك والكتابة.. حب وحرب وحبر».
الكتاب الأول بغلافه الأصفر الأنيق يأخذك إلى أغنية «قولوا لعين الشمس» ليؤكد لك بالتاريخ والتوثيق أن المطربة شادية لم تكن أول من تغنّى بها، وأنها لم تكن غنوة فى وداع حبيب ذاهب إلى العمل بالخليج، بل كانت مرثية بكاء أبدعها المصريون تضامنًا مع الشاب إبراهيم الوردانى الذى أطلق الرصاص على بطرس غالى بعد صدور أحكام دنشواى التى قضت بإعدام المصريين وكان بطرس غالى أحد أبطال هذه المحاكمة الشهيرة فخرج الناس يبكون الفارس الشاب وينددون بالإنجليز ويتوسلون إلى الشمس أن تخف من سخونتها أثناء اقتياد البطل للمحاكمة، وكان مطلعها يقول «قولوا لعين الشمس ما تحماشى إلا غزال البر صابح ماشى»، وتمرجحت الغنوة بعد ذلك كثيرًا حتى وصلت إلى المطربة «سنية شخلع» التى شخلعتها حتى تركتها على عروشها، فجمعها عبدالفتاح مصطفى وتركها للأبنودى والملحن إبراهيم رجب فظلت غير معروفة حتى وصلت إلى العبقرى المصرى بليغ حمدى، فوضع آهات البكاء مع الرومانسية وعرضها على الشاعر مجدى نجيب الذى استكمل الخيال ووضعه فى حنجرة «شادية» لتبقى «قولوا لعين الشمس» خالدة حتى اليوم.. والمؤلف هو الشاعر والكاتب محمد العسيرى الذى يتقصى حكايات الأغانى فى وجدان المصريين خلال مائة عام، فيلضم موال أدهم الشرقاوى مع القصة الشعبية فى جهد وعناء وإبداع يستحق القراءة.
الكتاب الثانى «الملك والكتابة حب وحرب وحبر» يعصر لك تاريخ مصر الصحفى والسياسى فى صفحات رائقة وبديعة، يجمع لك مئات القصاصات والأوراق والمستندات والمراجع ليقدمها فى سطور تأخذك من السياسة إلى الفن، وهو مشروع فريد بدأه المؤلف «محمد توفيق» منذ ٦ سنوات يتقصى وقائع مصر من خلال الصحافة وعلاقتها بالحاكم، ففى العام «١٩٤٤» الذى نهشت فيه الملاريا أجساد وأعمار المصريين كان الصحفى الشاب محمد حسنين هيكل ينتقل من إيجبشيان جازيت إلى «آخر ساعة» ليكتب أول سطر فى رحلة الوصول للمجد فى مقال بعنوان «إنه الفاروق»، واصفًا الملك الرحيم الذى زار المصابين والمكلومين فى الصعيد، وفى العام نفسه كانت أسمهان فى رأس البر ومحمد التابعى يركب القطار بجوار توفيق الحكيم ويبكى بعد أن علم بمصرعها، وفى العام ١٩٤٩ وبينما دماء النقراشى باشا تعلن عن ميلاد بذور القتل والإرهاب بين جماعة الإخوان المسلمين ويدفع حسن البنا الثمن فى نفس العام، كان نجيب الريحانى يودع الدنيا وكان طه حسين يكتب مرثية الدموع فى وداعه.
ما زلنا معًا فى المرجيحة، فخُذ نفسًا عميقًا وعُد للخلف بثنى الركبتين قليلًا لتجد حديثًا هامسًا بين صحفيين وعمال مطابع ومشجعى كرة القدم عن رجل أعمال اشترى ناديًا رياضيًا بلاعبين وصحفيين وإعلاميين وجماهير وجمعهم فى مكان بعيد ودفع لهم فلوسًا بالهبل!، وسنصعد ثانية بالمرجيحة قبل أن نستكمل هذه النميمة فالرجل الذى يتحدثون عنه لا يمكن أن يكون موجودًا إلا فى قصص ألف ليلة وليلة حيث شراء الجوارى والعبيد، والخيال يبالغ كثيرًا بلا شك، فهل يعقل أن يدفع الرجل كل هذه الفلوس لصحفيين يشجعون كرة القدم أو يكتبون عنها ويترك صحفيين مثل مؤلفى الكتابين السابق الإشارة إليهما؟!، فالأستاذ محمد العسيرى شاعر وصحفى ومؤلف عدد كبير من أغانى الأستاذ على الحجار، ومحمد توفيق صحفى شاب يعمل بالساعات كى يصل إلى معلومة صحفية، والذين هبشوا الفلوس المزعومة ليسوا أفضل منهما، والكون مش هيخرب لو فقير لهط له لهطة، لكنها المرجيحة التى ما زلنا نركبها ويوم تحت ويوم فوق، فكذلك حال الكلام المبالغ فيه عن رجل الأعمال الذى اشترى الأشياء كلها، فالنميمة والشائعات تزعم أنه الشيخ تركى آل الشيخ، ويحكى الناس عن دولارات يحدفها شمالًا ويمينًا ولا تصل إلى محمد العسيرى ولا محمد توفيق!، وهذا حال الدنيا حين تختلط الشائعات بالحقائق وتتجاور الملايين مع الملاليم والكتب والصحافة مع الجرجير والمخلل، والمرجيحة التى تعلو جعلت من الرجل شيطانًا رجيمًا جاء لتدمير الكرة المصرية وشراء الحكام والعارضات وحراس المرمى، وجعلت منه شاهبندر يثير الحقد والكراهية بين جموع الصحفيين الذين وجدوا أنفسهم فى مأزق أمام طريقته فى شراء بعضهم، فالذى هاجمه بالأمس، اشتراه فى اليوم التالى بثمن ضخم!، وبالتالى فالمداهنة والمديح قد لا تعود بنتائج جيدة، وبين آه ولأ، ظل تركى آل شيخ فى المرجيحة التى تؤكد فى هبوطها الأكثر هدوءًا أنه شاعر رقيق وحالم كتب غنوة «برج الحوت» لعمرو دياب وعددًا كبيرًا من الأغانى لكاظم الساهر ومحمد عبده وماجد المهندس، وعندما ظهر اسمه لأول مرة فى مصر مع غنوة عمرو دياب سألت عنه أصدقاء من المثقفين والمبدعين السعوديين فأكدوا أنه يحفظ أشعار المتنبى ويقرأ لصلاح عبدالصبور ويحفظ مقامات الحريرى، وأنه يحمل رسالة الود والوصل وتجديد المحبة بين السعوديين والمصريين، وبالتالى فالذى يظهر فى السوشيال ثائرًا وغاضبًا ومستفزًا، بكسر الفاء، وفتحها هو شخص آخر دخيل على عالم المراجيح العريق، فليس من منطق المراجيح أن تظل تعلى لفوووق وتنسى تحت حيث العسيرى وتوفيق.