رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

موسم الهجرة من الخليج


مثل الطيور التى تهاجر بحثًا عن الرزق أو الدفء، ظلت أسراب الحالمين بالمال والثروة تهاجر إلى دول الخليج منذ بداية السبعينيات فى القرن الماضى، وكانت تعود فرادى محملة بما تيسر من ‏أحلام قليلة أو كثيرة تحققت، أو بخيبة أمل كبيرة بعد ضياع أجمل سنوات العمر.‏

رغم كل هذا ظل حلم الهجرة إلى الخليج يداعب خيال الملايين فى جميع الدول العربية، وظلت أسراب المهاجرين إلى أحلام الثراء تتدفق على مدى خمسة عقود، لكن يبدو أن موسم الهجرة ‏العكسية قد بدأ بالفعل، وأنه قد آن الأوان لأن تبدأ أسراب الطيور المهاجرة فى العودة، لأن المناخ لم يعد ملائمًا لها، فقد تغيرت حقائق كثيرة على أرض الواقع، بعد أن أصبحت ملامح عصر الوفرة ‏النفطية شيئًا من الماضى، وبدأت الاقتصادات الخليجية تعانى من نفس المشاكل التقليدية كالبطالة والتضخم وعجز الموازنة العامة وتراجع الاحتياطيات النقدية، والحاجة لفرض ضرائب ورسوم لم ‏تكن معروفة للمواطن الخليجى حتى وقت قريب.‏
الحقائق التى يدركها المقيمون- أو المهاجرون- فى دول الخليج الست، والتى لا تنشرها معظم وسائل الإعلام العربية، تؤكد أن عشرات أو مئات الآلاف من المصريين سوف يعودون إلى بلدهم ‏خلال العامين الحالى والتالى، وأن العودة قد تبدأ بعائلات العاملين، بعد الارتفاعات الباهظة فى الرسوم المفروضة على المقيمين فى دول مجلس التعاون، ففى هذا الشهر «يوليو» بدأت السعودية، فى ‏تحصيل ٢٠٠ ريال «حوالى ألف جنيه» كرسم شهرى عن كل مرافق للعامل أو الموظف الأجنبى بإجمالى ٢٤٠٠ ريال سنويًا، وبحسبة بسيطة سنجد أن أجنبيًا يريد العيش مع أسرته وطفلين عليه أن ‏يدفع عنهم ٧٢٠٠ ريال سنويًا، أى ما يعادل ٣٥ ألف جنيه مصرى ولذلك فقد قرر الكثير من المقيمين «ومن بينهم المصريون» إعادة عائلاتهم، خاصة أن هذه الرسوم سترتفع بمقدار مائة بالمائة ‏لتصل إلى ٤٠٠ ريال فى الشهر عن كل مرافق بإجمالى قدره ٤٨٠٠ ريال بحلول عام ٢٠٢٠.‏
وفى هذا الشهر أيضًا بدأت مملكة البحرين تطبيق الشريحة الثالثة، لقرار رفع سعر الكهرباء للأجانب بمقدار «ألف بالمائة» أى عشرة أضعاف، وستطبق الشريحة الرابعة فى منتصف العام ‏المقبل، وبسبب هذا القرار اضطر العديد من الأسر الهندية والباكستانية العودة للعيش فى شقق مشتركة، وهو أمر لا يروق للمقيمين العرب والمصريين، وقد صارت فواتير الكهرباء كابوسًا حقيقيًا ‏للأجانب، حيث تبدأ فى العادة للأسرة المتوسطة بما يعادل ٢٠٠ دولار شهريًا، وإذا أضفنا هذا للرسوم التى فُرضت فى السنوات الأخيرة من هيئة سوق العمل البحرينية، على استقدام الأجانب ‏وأسرهم وعلاجهم فى المراكز الصحية، لوجدنا أن خيار البقاء أصبح شاقًا، خاصة للمرافقين من أفراد عائلة العامل أو الموظف، ناهيك عن الارتفاع الرهيب فى رسوم المدارس الخاصة.‏
الأمثلة التى ذكرتها عن السعودية والبحرين تكاد تكون متطابقة مع باقى دول مجلس التعاون، التى يجب أن نذكر- وللإنصاف- أنها لم تلجأ لمثل هذه الإجراءات إلا مضطرة، نتيجة لضغوط ‏اقتصادية ملحة، وهو ما عبّر عنه وزير الاقتصاد والتخطيط السعودى محمد التويجرى فى حديث له، على هامش مشاركته بمنتدى دافوس الاقتصادى الأخير، حيث قال بشكل واضح إن من أهم ‏أولويات وزارته تطبيق المشاريع والبرامج بأكبر قدر ممكن بقدرات محلية، والاستغناء عن الدعم الخارجى من العمالة الوافدة، فشبابنا وشاباتنا قادرون على تنفيذ برامج ومشاريع الرؤية السعودية ‏‏٢٠٣٠.‏
وتشير الإحصائيات السعودية إلى أن نسبة البطالة بين مواطنيها كبيرة، فى الوقت الذى يوجد على أرضها نحو ١٢ مليون وافد، فى الوقت الذى يبلغ فيه إجمالى عدد السعوديين ٢٠.٧٧ مليون نسمة.‏
الأمثلة كثيرة ومتكررة فى جميع دول الخليج، وهى تؤكد أن موسم الهجرة العكسية من الخليج قد بدأ وأنه غير مرشح للتراجع، رغم اختلاف التقديرات حول سرعة وتيرة عودة هذه العمالة الوافدة، ‏فهناك من يرى أن الأعداد ستتزايد كل عام، فيما يراهن البعض على ضغوط رجال الأعمال والمستوردين الخليجيين الذين يراهنون على إقبال الوافدين على رواج السلع والأسواق هناك.‏
لكن ما يعنينا نحن: هل هناك تقديرات أو تنبؤات بأعداد المصريين الذين يُتوقع عودتهم خلال السنوات الخمس المقبلة، ومدى تأثير ذلك على الأوضاع الاقتصادية أو الاجتماعية فى مصر؟، وهل ‏سيؤدى هذا لتراجع ضخم فى تحويلات المصريين بالخارج وهى أحد أربعة روافد رئيسية للعملة الصعبة بعد قناة السويس والبترول والسياحة؟ أتمنى أن تتحرك الجهات المعنية لدراسة قضية الطيور ‏المصرية المهاجرة من دول الخليج، قبل أن نفاجأ بمئات الآلاف الذين يطرقون أبواب سوق العمل فجأة، ومن المؤكد أنهم سيبحثون عن مساكن ومدارس وأشياء أخرى كثيرة، وعلينا أن نبحث الأمر ‏لمواجهة هذا التطور الجديد.‏