رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القيم الإنسانية فى غزوة بدر


حتى الغزوات التى خاضها النبى، صلى الله عليه وسلم، كان لها بُعد أخلاقى، لأن قوة الأخلاق تظهر وقت الشدة، لهذا لم تكن غزوة بدر- التى خاضها المسلمون ضد قريش فى ١٧ رمضان من السنة الثانية من الهجرة - معركة بين الإسلام والكفر، لكنها كانت غزوة إنسانية.
سماها الله تعالى يوم الفرقان، لأنها فرقت بين الحق والباطل «يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ»، فرقان بين قيم وأخلاق الإسلام وبين قيم وأخلاق فاسدة، فالبشرية قبل غزوة بدر غير ما بعدها، وهذا رأى المؤرخين العالميين، إذ إن هناك كتابًا يعتبرها ضمن أهم ١٠٠ حرب غيرت تاريخ العالم.
فقد حولت مجرى التاريخ وفتحت الباب أمام ظهور أمة جديدة هزمت الإمبراطوريتين الأقوى بالعالم وقتها: الفرس والروم، ونشرت العلم بالأندلس فتعلمت أوروبا منها، لهذا فإن تسمية القرآن لها بيوم الفرقان ليست تسمية دينية، لكنها استراتيجية عالمية.
هذه المعركة كانت بقيادة السماء، فقد شهدت معجزات خارقة، عشية اندلاعها ثبت الله الصحابة، والذين كانوا قلقين ومتوترين، فتساقط المطر، وناموا فى سكون وهدوء نفسى.
كانت طبيعة الأرض عند المسلمين مختلفة عن نظيرتها عند قريش، كان المسلمون فى منطقة اسمها «العدوة الدنيا»، وقريش فى منطقة أخرى اسمها «العدوة القصوى»، ولما نزل المطر، كان خفيفًا عند المسلمين، فجعل الأرض رملًا متماسكًا، وتساقط بكثافة عند قريش، فجعل الأرض طينة، كانت حركة الخيول والجمال عند المسلمين سهلة، وهناك ثقيلة مجهدة، حتى الأرض كانت تحارب مع المسلمين.
عمل الله تعالى على رفع الروح المعنوية لدى المسلمين، فقد جعل الله النبى يرى قريشًا فى المنام عددهم قليلًا مع أنهم فى الحقيقة كانوا كثيرين، حتى يهون الأمر على النبى والصحابة، وذلك رحمة بهم.
كما نزلت الملائكة من السماء وشاركت إلى جانب المسلمين فى المعركة.
كانت المعركة كلها بتدبير الله وحده، حتى اسم بدر لم يكن صدفة، لكن لأنها كانت عند بئر بدر، فقد خرج النبى إلى بدر يوم ١٣ ووصل يوم ١٥، يوم اكتمال البدر، وكل هذا بترتيب من السماء.
سبب غزوة «بدور»، كان هو دفع العدوان، بعد أن استولت قريش على أموال المسلمين وممتلكاتهم، فأرسل النبى سرايا تعترض قوافلها التى تمر فى محيط المدينة فى طريقها إلى الشام من أجل استرداد حقوق المسلمين.
ولما سمع بقافلة لقريش عائدة من الشام إلى مكة بقيادة أبى سفيان، وكانت تضم أموال جميع تجار قريش وزعمائها، فيها ألف بعير و٥٠ ألف دينار ذهبى، وهو مبلغ ضخم وقتذاك، فقال: هذه عير قريش فيها أموالكم فأسرعوا إليها، لعل الله يرد إليكم حقكم ولم يعزم على أحد الخروج، لأنه لا يتوقع الحرب فخرج معه ٣١٣ رجلًا معهم فرسان: فرس الزبير، وفرس المقداد، و٧٠ بعيرًا، كان كل ثلاثة يتبادلون على بعير، وعلى الرغم من أن النبى كان عمره ٥٥ سنة، لكن رفض أن يركب، فكان يستحيى أن يتميز عنهم.
خرجت قريش للحرب، وكان عدد جيشها ما بين ألف وألفين فرس و٦٠٠ درع و٧٠٠، لكن القوة ليست فى الأرقام، فالروح المعنوية قوة، والهدف الواضح قوة، والإيمان قوة، والتخطيط الذكى قوة.
فجاء النصر من السماء، لأن النية كانت منصرفة إلى السلام، وليس الصراع، ثانى الأسباب لحصول النبى على المدد من السماء، أنه بذل جهدًا وقام بالتخطيط للمعركة، وعقد معاهدة عدم اعتداء مع قبيلة «كنانة»، وكانت تسكن منطقة الأبواء جنوب المدينة، فى منتصف المسافة بين مكة والمدينة.
وظلت قيم وأخلاق النبى ثابتة حتى وقت الحرب، وليس كما المتطرفين أخلاقهم نسبية، إذا كنت بينهم يعاملونك أحسن معاملة، وإذا كنت بعيدًا عنهم نالك منهم السباب والغل.
وأهم هذه القيم، قيمة المشاركة واحترام العهود، واحترام الناس، وقبل بدء المعركة دعا النبى بشدة: «اللهم إن تهلك هؤلاء فلن تعبد فى الأرض، اللهم نصرك الذى وعدتنى، اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك»، مازال يهتف بربه حتى سقط رداؤه، فقال له أبوبكر: هون عليك يا رسول الله فوالله لا يخزيك الله أبدًا.
بعدما انتهت المعركة لصالح المسلمين، سقط من قريش ٧٠ قتيلًا، ومثلهم أسرى، ومن المسلمين ١٤ شهيدًا، فرت قريش لم يلحقهم النبى وجيشه، وكان أمامه فرصة ذهبية لأن ينتهى منهم، وأن يفتح مكة، لكنه لم يرد ذلك، لأنهم لو ماتوا، فلمن ستصله رسالته، ولأن المحافظة على الأرواح هى نفسها المحافظة على الدين، وهدف النبى هو بناء إنسان.
النبى احترامًا للإنسانية، حفر قبورًا لقتلى قريش، ولما دفنهم وقف يناديهم بأسمائهم: يا أبا الحكم بن هشام، يا أمية بن خلف هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟
ما حصل إنه بعد انتهاء المعركة، فرت فلول قريش من ساحة القتال، لكن مجموعة من الصحابة سارعوا للحاق بهم وأسروهم من أجل الغنائم فغضب النبى منهم.
النبى طلب الإحسان إلى الأسرى، بعضهم كان جريحًا، فكانوا يركبون الإبل والمسلمون يسوقونها لهم، إذا قدموا العشاء أكلوا التمر وأعطوهم القمح، وهو أعلى قيمة عندهم من التمر، لهذا أسلم كل أسرى بدر بعدها.