رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اكفل قناة فضائية فى رمضان


يسألنى أصدقائى فى الخليج عن هذا السيل الجارف من الإعلانات التليفزيونية التى تقدم وجهين متناقضين تمامًا للحياة فى مصر، وجهًا لمرضى السرطان والقلب والكبد وألزهايمر، وللفقراء الذين لا يجدون كوب ماء نظيفًا وتفتقد قراهم الصرف الصحى، والذين نجمع لهم الأموال لعلاجهم وكفل قراهم، ووجهًا آخر لأفخم التجمعات السكنية الفاخرة أو الكومباوندات المليئة بملاعب الجولف وحمامات السباحة والمولات التجارية.
القاسم المشترك بين مجتمعى البؤس والثراء اللذين تعكسهما إعلانات رمضان هذا العام هم نجوم السينما والتليفزيون، فهم أبطال الحملات الإعلانية الفاخرة التى تكلفت عشرات أو مئات الملايين من أجل إنتاجها، ومن أجل عرضها عشرات المرات كل يوم على كل القنوات التليفزيونية.. ولا بد أن هذه الملايين قد تم استقطاعها مما دفعه المتبرعون الذين لم يعرفوا أن ما دفعوه من أجل الخير، ذهب جزء منه لأجور النجوم وللقنوات الفضائية كثمن لعرض هذه الإعلانات على شاشاتها، ولا أحد يخبرنا فى النهاية كم يتبقى من تبرعاتنا للمرضى والمحتاجين بعد هذا النزيف.
أرجو ألا يتسرب الشك إلى القارئ العزيز أننى ضد حملات التبرعات للمرضى والمحتاجين، فأنا واحد ضمن ملايين من المتحمسين لنشر «ثقافة التبرع» فهى ثقافة عرفها المجتمع المصرى منذ الأربعينيات، عندما كان الوجهاء والأثرياء يبنون المستشفيات كمبرات خيرية، وكان الأثرياء وحتى متوسطو الحال يتباهون بالتبرع لقصر العينى والهلال الأحمر ومعونة الشتاء، وكم نادى الكتاب والإعلاميون بعودة ثقافة التبرع لبلادنا، باعتبارها دليلًا على نضج المجتمع المدنى باعتباره المسئول عن ترسيخ الوعى للمساعدة والتبرع للمحتاج.
جمع التبرعات للأعمال الخيرية دليل على الوعى والرقى والرغبة فى أن يسود التكافل والتراحم بين أبناء المجتمع، لكن أسوأ شعور يمكن أن ينتاب المتبرع هو أن يشعر بأن هناك من يتلاعب بأموال يدفعها، ليجدها يوم الحساب فى ميزان حسناته، فإذا بها تتحول بقدرة الحملات الضخمة إلى أرقام فى حسابات نجوم السينما والتليفزيون وشركات الدعاية والإعلان وتتحول إلى أرباح للمحطات الفضائية التى يمتلكها مليارديرات.. فنجد المتبرع يسأل نفسه هل أنفق مالى لإغناء فقير.. أم لإغناء مليونير أو ملياردير؟.
من الواجب علينا فى الشهر الكريم أن نقف وراء مرضى السرطان والقلب والكبد وضحايا الحروق، وأن نكفل الأيتام وسكان القرى الفقيرة، وأن ندعم بنك الطعام وأن نفك كرب الغارمات، ولكن من الضرورى أن نسأل كم يصل لهؤلاء المحتاجين والمتلهفين للمساعدة من تبرعات أهل الخير؟، نصفها أم ثلثها أم ربعها؟.. يجب أن تكون هناك شفافية لنعرف كم خسر أهل الخير من تبرعاتهم فى هذه الحملات الإعلانية «المجنونة»، وهل هناك جهة تراقب حملات التبرع هذه، كم جلبت وكم أنفق القائمون عليها؟.
لقد بدأ الكثيرون يعتقدون أن جمع التبرعات تحول من عمل خيرى إلى بيزنس، ويغذى هذا الاعتقاد عدد من الحقائق، لعل أهمها أن فى مصر اليوم وطبقًا لما أعلنته الدكتورة غادة والى، وزيرة التضامن الاجتماعى، ٤٨٫٣٠٠ جمعية ومؤسسة أهلية، منها ٢٩٫٠٤٣ مؤسسة وجمعية نشطة، والعدد الأكبر منها فى القاهرة والجيزة والإسكندرية، هذا بالإضافة إلى ٩٦ منظمة دولية عاملة فى مصر.
وهذه الجمعيات والمؤسسات تتحرك فى ضوء حقيقة مفادها، أن حجم النشاط الخيرى فى مصر يبلغ ٥٥ مليار جنيه، وهو رقم ضخم تتسابق كل جمعية ومؤسسة خيرية على الفوز بجزء منه، وفى ذلك يتنافس المتنافسون ويبتكرون إعلانات تمزق القلوب، ويستخدمون الأطفال للاستجداء وهذا أمر لا يقبله أى ضمير حى أو نصف حى، إنهم يتبارون فى استنزاف مشاعرنا ودموعنا، ولكن كل شىء يهون إذا كان ذلك من أجل الخير، وليس لأجل أى شىء آخر.
نعرف أن نجومًا كبارًا تبرعوا بأجور ظهورهم فى هذه الحملات مجانًا، لكن هل كل النجوم الذين ظهروا فى الإعلانات كانوا متبرعين، أليس من حقنا أن نعرف؟، أليس من حقنا أن نعرف كم دخل إلى خزائن الفضائيات من أموال التبرعات، وكم تقاضت شركات الإعلانات؟.
إذا كان الخوف من إهدار أموال المتبرعين جانبًا من القضية، فإن هناك جانبًا آخر ربما يكون أشد خطورة عندما يتعلق الأمر بجمعيات تحيط بها الشبهات من كل جانب، خاصة من جانب الانتماء السياسى للقائمين عليها، فإحدى هذه الجمعيات كان القائم عليها أحد نجوم اعتصام رابعة، ونحن نراها منذ سنوات تذيع حملات تقول فيها إنها تعلم وتعالج وتكفل الأيتام وتجهز العرائس وتفك كرب الغارمات وتكفل القرى النائية وتوزع الملابس وكأنها حكومة وليست جمعية خيرية، هل هناك من يراقب حجم التبرعات التى تجمعها هذه الجمعية، لمعرفة كم تنفق فى الخير وكم تنفق فى أغراض أخرى قد لا تكون فى صالح البلد؟.
عندما ننادى بمراقبة هذا السيل الجارف من حملات التبرعات، فإننا نقف إلى جانب الخير وليس ضده، فلو أصاب الناس الشك فى الأغراض التى تنفق فيها أموالهم سيتوقفون فورًا عن التبرع.. وسيكون الخاسرون الحقيقيون هم المرضى والمحتاجين والجائعين وليس الجمعيات أو أصحاب الفضائيات.. ملايين المصريين مستعدون لأن يكفلوا الأيتام والأرامل وسكان القرى النائية، لكن لن يقبلوا أن يكفلوا القنوات الفضائية ولا وكالات الإعلان، لأنهم ببساطة أغنى منهم بكثير.
أهل الخير كثيرون فى بلدنا.. فشجعوهم على العطاء ولا تدعوا الشك يتسرب إلى قلوبهم حتى لا تصيبوهم بالإحباط.. وتصبحوا على ما فعلتم نادمين.