رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد سعيد العشماوى يكتب: حكومة الإسلام مدنية

محمد سعيد العشماوى
محمد سعيد العشماوى

- أبوبكر حارب المرتدين لأن الإسلام كان بمثابة الوطن والخروج منه أشبه بالخيانة العظمى الآن

فى شبه جزيرة العرب لم يكن يَعرف العرب والأعراب إلا نموذج القبيلة التى تنقسم إلى عشائر وفروع أو «أحياء»، فكان فى يثرب «التى سُميت مدينة النبى بعد الهجرة، ثم اختُصر الاسم فيما بعد إلى المدينة»- قبيلتا الأوس والخزرج، فضلًا عن عدة قبائل يهودية. وفى مكة كانت قبيلة قريش، التى تنقسم إلى اثنى عشر فرعًا، أبرزها الهاشميون والأمويون. وكانت فيها دار تُسمى «دار الندوة»، يصبح عضوًا فيها كل من بلغ سن الأربعين من رجال القبيلة، حيث يبرمون أمورهم بالشورى بينهم، لأن طبيعة الوضع لم تكن لتسمح بوجود رئيس للقبيلة يبرم وينقض الأمور التى تخصها. وقد وُصف ذلك فى القرآن بالآية المكية «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ» سورة الشورى: ٣٨.

ولما بدأ النبى يبشر بدعواه، أُمر بأن ينذر أقرب الناس من عشيرته «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» سورة الشعراء: ٢١٤. وتلا ذلك الأمر بإنذار أم القرى «مكة أو بكة أو الناسة التى يُنسب إليها أهلها فيُقال عنهم إنهم الناس»، وفى القرآن عن ذلك «وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا» سورة الشورى: ٧.
عندما هاجر النبى وصحبه إلى المدينة «يثرب» اتسع نطاق المخاطبين بالدعوة، ونشأت للمؤمنين بها ما تُسمى أمة المؤمنين أو أمة الإسلام أو أمة محمد. ولفظ «أمة» من أصل عبرى يعنى القبيلة، وبذلك كانت أمة المؤمنين قبيلة للمسلمين تواجه القبائل الأخرى، وتختلف عنها فى أن الصلة بين أفرادها تقوم على رابطة الدين، بينما كانت الرابطة فى القبائل الأخرى هى صلة الدم.
وكانت اختصاصات النبى- فضلًا عن الدعوة إلى الإيمان والاستقامة- تقارب ما كان لرؤساء القبائل من اختصاصات. وإلى جانب ذلك كانت له حقوق فرضها القرآن، وأهم هذه الحقوق حق الصدقة المفروضة بالآية «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ» سورة التوبة: ١٠٣.
بعد وفاة النبى بويع لأبى بكر فى بيعة قال عنها عمر بن الخطاب إنها كانت «فلتة»، ذلك لأنها تمت بصعوبة شديدة، وظل سعد بن عبادة رئيس قبيلة الخزرج معارضًا لها، وبالطبع كان معه نفر من القبيلة، وتخلّف علىّ بن أبى طالب عن هذه البيعة، حتى إذا ما توفيت زوجته فاطمة بنت النبى بعد ستة أشهر، اضطر إلى البيعة.
وقد خطب أبوبكر بعد أن بويع له فقال للمسلمين: «ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإذا أسأت فقوّمونى.. أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم» وإثر ولاية عمر بن الخطاب- بعد وفاة أبى بكر- خطب فى الناس فقال: «... إن رأيتم فىّ اعوجاجًا فقومونى».
وهكذا فهم كبيرا الإسلام- بعد النبى- أن رياسة أمة الإسلام عمل مدنى، وليست أمرًا دينيًا، فالناس هى التى تبايع «أى تنتخب بلغة العصر»، وهى التى تراقب، وهى التى تعزل الحاكم الذى ينحرف عن الاستقامة.
هذا الفهم السليم أفسدته قواعد الحصول على المال. ذلك أن بعض القبائل ارتدت عن الإسلام، من تقدير خاطئ بأن النبىّ كان حاكمًا بايعوه، فلما مات تحللوا من البيعة، كأنهم لم يكونوا قد استوعبوا أن النبى كان رسول الله يدعوهم إلى الإيمان. ومن هذا الفهم الخاطئ اضطر أبوبكر إلى محاربة المرتدين عن الإسلام دينًا؛ لأن الدين كان بمثابة الوطن آنذاك، وكان الخروج من الدين أشبه بالخيانة العظمى حاليًا. لكن قبائل أسد وغطفان وطئ، امتنعت عن دفع الصدقة التى فُرضت بحكم الآية «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ»، وقالوا فى تسبيب الامتناع عن أداء هذه الصدقة، إنها كانت تؤدى للنبى وحده، مقابل صلاته عليهم. لكن أبا بكر أصّر على محاربة كل من امتنع عن أن يؤدى إليه ولو عقال بعير كان يؤديه إلى النبى. وبهذه الحرب التى تُوصف بأنها حروب الردة، مع أنها كانت حربين، إحداهما للردة والأخرى للصدقة، بهذه الحرب امحّى الفارق بين ما هو للنبى وما هو لمن يخلفه.
احتار المسلمون فى وصف وضع أبى بكر فقالوا إنه خليفة النبى. لكن أبا بكر أدرك أن للفظ «خليفة» معْنيين، أحدهما يدل على الخلافة القانونية التى تجعل للخلف ما كان للسلف من حقوق والتزامات، والثانى يعنى من يلى آخر فى الزمان، أى أنه التابع أو الخالف؛ ومن ثم فقد قال أبوبكر: أنا خالف النبى ولست خليفته. أى أنه تبع النبى فى الزمان، ولم يخلفه فى الحقوق والالتزامات.
حكومة الإسلام إذن، حكومة مدنية تصدر عن الشعْب، وتُراقب من الشعب، وتسقط من الشعب، إن وجد فيها حيودًا عن الاستقامة. هذا ما فهمه المسلمون الأوائل، وما طبقوا خلال خلافتى أبى بكر وعمر. وعكس الحكومة المدنية- فى هذا الصدد- ما يسمى خطأ الحكومة الدينية، وهى فى الواقع حكومة كهنوتية، تدعى الحكم بما أنزل الله، بينما هى فى حقيقة الحال تحكم بما يرغب فيه الحكام، وهم يضعون أنفسهم ورغباتهم موضع الجلالة.
ظل الحال فى حكومة الإسلام مدنيًا، يعود كل شىء فيه إلى أمة المسلمين، حتى منتصف عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان. فقد وقعت منه أخطاء فى الحكم وفى الإدارة، لكن خصومه، وأشدهم الهاشميون بزعامة على بن أبى طالب، خلطوا لفظ الحكم، وهو فى القرآن يعنى القضاء، كما يعنى الرشد والحكمة بلفظ الأمر، وهو فى القرآن يدل على أمور الناس، إما فى الدين وإما فى الإدارة، وبذلك اتهموا عثمان بالكفر، وقالوا إنه لا يحكم بما أنزل الله «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»، مع أن فى ذلك إرهاقًا فى تفسير الآية وسوء تأويل لها بانتزاع النص من سياقه، الذى هو بكامله «وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ.. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» سورة المائدة ٥٤-٥٥. فالآية خطاب ليهود المدينة فى عصر النبى، لأنهم لم يقضوا فى واقعة زنا بحكم الله عنها فى التوراة، وإنما حكّموا النبى وضللوه فلم يذكروا أن العقوبة هى الرجم، وفيهم نزلت الآيات التى أدى سوء استعمالها وانتزاعها من السياق إلى وصم عثمان بالكفر ثم قتله، كما أدى إلى ظهور منهاج فى تفسير الآيات على عموم الألفاظ، وهو ما خرج بكثير من المسلمين عن نطاق القرآن تمامًا.
رفض عثمان، وعشيرته من الأمويين، وكثير من المسلمين اتهامه بالكفر. وفى هذا الخلاف بين الفريقين ظهرت عبارة «خليفة الله» إذ استعملها عثمان فى حجاجه مع معارضيه، ثم وردت فى شعر لحسان بن ثابت بعد مقتل عثمان:
لعلكم أن تروا يومًا بمغطبة خليفة الله فيكم كالذى كانا
وبعد أن هدأت أحداث الفتنة الكبرى قليلًا، وصل الحكم إلى معاوية بن أبى سفيان، فركز على تعبير «خليفة الله». وقال: «إن حكمنا هو من قضاء الله وقدره، مكتوب عند الله منذ الأزل، أى مكتوب فى اللوح المحفوظ». وكان من شأن ذلك تأييد الجبرية، ومنع المسلمين من حق مراقبة أو تغيير الحاكم، مادام أن حكمه- عدلًا أو ظلمًا- هو فى كتاب الله الأزلى، وهو أمر مقدّر عليهم، فى سجل القضاء، ولا راد لقضاء الله وقدره.
وعندما قامت الخلافة العباسية، بعد تقويض الخلافة الأموية، وقف مؤسسها السفاح أبوالعباس «٧٥٠م» يخطب فى الناس، فقال: «الحمد لله الذى اصطفى الإسلام لنفسه وكرّمه وشرفه وعظّمه، واختاره لنا فأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوّام به والذّابين عليه والناصرين له فألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها. وخصّنا برحم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقرابته، وأنشأنا من آبائنا وأنبتنا من شجرته واشتقنا من نبتته.. فأعْلمهم فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفئ والغنيمة نصيبًا مكرمة لنا وفضلًا علينا.. لكم منا ذمة الله.. وذمة رسول الله، أن نحكم فيكم بما أنزل الله.. واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم عليه السلام»، وهو ما لم يحدث تأكيدًا، من واقع التاريخ وأحداثه.
ورَنّة صيرورة الخلافة وضعًا دينيًا واختيارًا من الله واضحة ظاهرة فى الخطبة السالفة، والتى لم تترك الفئ والغنائم دون أن تشير إلى أن ما يُجزل به للخليفة، هو أمر الله كذلك.
وعندما قامت الخلافة الفاطمية «نسبة إلى فاطمة الزهراء، بنت النبى» كانت من الشيعة الإسماعيلية الذين يعتقدون بصحة حديث غدير خم الذى ينسب إلى النبى فيه أنه قال، إنه وعلىّ بن أبى طالب «ابن عمه» كانا نورًا أزليًا عند الله، وأنهما انقسما فى جسدين. لكن النور واحد. ومن هذا الحديث كان وما زال الشيعة «إلا الزيدية» يعتقدون أن الأئمة من نسل علىّ بن أبى طالب وزوجه فاطمة الزهراء يضمون نور الله، فيكونون مُلهمين ويكونون مُقدسين. بذلك اكتمل وضع الخليفة ليصير نور الله وروح الله. وفى ذلك يقول الشاعر مخاطبًا الخليفة الفاطمى:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
من هذا السرد الموجز لوضعية الخلافة فى الإسلام، يظهر بجلاء أن الأمر أو «الحكم» فى الإسلام مدنىّ، يقوم برغبة الناس، ويسير بمراقبة الناس، وينتهى إذا ما أراد الناس ذلك، متى رأوا فيه حيودًا عن الاستقامة. وقد بدأ التغيير فى هذه الوضعية التى أدركها وسار عليها المسلمون الأوائل عندما سُمىّ أبوبكر خليفة، وقد أدرك هو أنه لا يخلف النبى فى حقوقه والتزاماته لكنه خلفه فى الزمان، أى تبعه فى الوقت، ومن ثم فقد قال أنا خالف النبى ولست خليفته.
وسارت الخلافة على أنها رياسة مدنية للمسلمين جميعًا. وفى أحداث الفتنة الكبرى ادعى عثمان وأنصاره أن الخليفة خليفة الله.
وزعم معاوية «مؤسس الخلافة الأموية» أن هذه الخلافة قضاء الله وقدره، مكتوبة فى اللوح المحفوظ منذ الأزل.
وزعم أبوالعباس السفاح أن الخلافة لهم اصطفاء من الله، بداعى القربى، للنبى، وأن الله أعطاهم الفئ والغنيمة حقًا لهم، مع أنها بنص القرآن خاصة بالنبى.
وقال الخلفاء الفاطميون إنهم يضمّون فى أنفسهم النور الأزلى الذى انقسم إلى محمد وعلىّ، ثم اجتمع فى نسل فاطمة الزهراء وعلىّ بن أبى طالب، ومن ثم فقد انتحلوا مقام الجلالة.
وهكذا تحولت الخلافة- بفعل الخلفاء- من وضع مدنىّ، إلى رياسة للمسلمين جميعًا، إلى أنها قضاء الله وقدره، إلى أن الخلفاء هم فى مقام الجلالة. فمن ذا الذى يستطيع أن يطاول مقام الجلالة أو يعارضه؟. بهذا صار تأليه الحاكم عادة شائعة فى التراث الإسلامى، إلا قليلًا.