رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد سعيد العشماوى يكتب: الخلط بين الدين والفكر الدينى

محمد سعيد العشماوى
محمد سعيد العشماوى

- حديثا «تناكحوا تناسلوا» و«من رأى منكم منكرًا» لم يردا فى أى كتب صحيحة للحديث
- تفاسير الطبرى وابن كثير تحتوى على خرافات وتنطوى على إسرائيليات


يتحلق حول المعتقد، أى معتقد، كثير من التفسيرات والتأويلات والأقاصيص، ويتخلق من النص، أى نص، وفير من التطبيقات والتعليلات والأقاويل، وهذا وذاك- فى مجال الدين- يكوّن شيئًا آخر غير الدين، هو الفكر الدينى، وهو فكر يتحلّق حول الدين ويتخلّق من نصوصه، وقد يتوافق مع الدين فى بعض الأحوال، لكنه فى كثير منها يختلط بالتمنيات المرجوّة أو بالمفاهيم القاصرة أو بالتراث الشعبى «الفولكلور». ولأن التحقيق والتدقيق والتوثيق من سمات العلم، فى حين أن الاستهواء والاستغواء وابتناء الاعتقاد على الشائعات من صفات الجهل، فإن الفكر الدينى يتقلص إلى أدنى مستوى يمكن التحقق منه بالعلم، فتكون الصلة بينهما عكسية «منعكسة»، كلما زاد العلم قلّت الخرافة، وكلما قل العلم زادت الخرافة، وتكون الصلة بين الجهل والخرافة طردية «مطّردة»، فكلما عمّ الجهل انتشرت الخرافة، وكلما تبدد الجهل اختفت الخرافة.
هذا ما يجعل العلم، والمنهج العلمى الذى ينبنى على استعمال العقل بشتى مستوياته، مضادًا للأيديولوجيا الدينية «التى تخلط الدين بالسياسة فتجعل منه معتقدًا سياسيًا» فترفضه وتأباه، وتدعى أنه مضاد للدين، فى حين أنه مضاد للفكر الدينى، رافض لعدم استعمال العقل، معارض لتحويل المعتقد الدينى إلى معتقد سياسى، محارب بالشورى والديمقراطية لمبدأ السمع والطاعة الذى تركن إليه الأيديولوجيا الدينية «ومنه الإسلام السياسى»، ضرورة ولزامًا؛ فتجعل من المواطنين فى دولة رعايا لحاكم أو أمير أو مرشد، أو محكومين بمقررات ثابتة لا تُناقش ولا تتغير ولا تتطور.
وضَع علم أصول الفقه الإمام الشافعى «محمد ابن إدريس (٧٦٧-٨١٩ م) ومعاصر لهارون الرشيد» ومنهاجه فيه الذى صار منهاجًا للمسلمين جميعًا، وهو أهم رافد من روافد الفكر الدينى- يستند إلى أن الأحكام الدينية تؤخذ من القرآن والسنة والقياس «الاستنباط» والإجماع.
والقرآن، لم تُجمع آياته ولم تُدون ولم تُقتصر على حرف واحد، لا بأمر من الله ولا بوحى منه ولا بعمل النبى ولا بمشورته. فقد كان للنبى كتّاب يكتبون عنه الوحى على الحجارة والعظام وسعف النخيل وغيرها؛ لأن الورق لم يكن متاحًا عندهم آنذاك. وفى هذا التدوين كانت الآيات متفاصلة لا يجمعها جامع ولا يضمها مصحف. وكان بعض المسلمين يكتب ما يعرفه من آيات، فكانت فيما بعد ثمة مصاحف للصحابة هى– على سبيل المثال لا الحصر- مصحف عمر بن الخطاب ومصحف على بن أبى طالب ومصحف أبىّ بن كعب ومصحف عبدالله بن مسعود ومصحف عبدالله بن عباس ومصحف عبدالله بن الزبير ومصحف عائشة ومصحف حفْصة وغير ذلك من مصاحف– وفى عهد أبى بكر تم جمع وتدوين أكثر هذه المصاحف.
وفى عهد عثمان بن عفان جمّع المسلمين على حرف واحد «قراءة واحدة»، غير منقوطة ولا مشكولة، وحرق باقى المصاحف، ومن ثم قيل عنه إنه حرّاق المصاحف. ولا تزال النسخة التى جمّع عثمان المسلمين عليها متداولة بين أهل السُنة والشيعة، وتسمى المصحف بالرسم العثمانى. لكن يقال إن بعض الشيعة لديهم مصحف آخر يقول عنه البعض إنه مصحف فاطمة، ويقول بعض آخر غير ذلك، نقلًا عن كتاب «المصاحف» لأبى بكر السجستانى.
أما الحديث فلم يدون إلا فى منتصف القرن الثانى وأوائل القرن الثالث الهجرى وقد جمّع البخارى ٦٠٠٫٠٠٠ حديث خرّج ما صح له منها وهو٤٠٠٠ حديث إذا رفع منها المكرر كان الباقى ٢٧٦٢ حديثًا. وجمع مسلم تلميذه ثلاثة آلاف حديث خرّج منها ما صح له. ومجموعها ٤٠٠٠ حديث. ولم يتفق البخارى ومسلم على كل الأحاديث، فثمة أحاديث لم تصح عند أحدهما وصحّت لدى الآخر، ذلك يقطع بأن عملهما كان اجتهادًا بشريًا ولم يكن وحيًا من الله، وإلا ما اختلفا.
لكن الأحاديث التى طرحها هذا وذاك بقيت فى التراث الإسلامى– مع غيرها من الأحاديث المنحولة- تشكله وتؤثر فيه. ومن ذلك أن أبا حامد الغزّالى «١٠٥٩-١١١١م» اعتمد فى كتابه «إحياء علوم الدين» على أحاديث غير صحيحة مثل: «علم لا ينفع وجهل لا يضر، العلماء ورثة الأنبياء» وقد ورد فى بعض كتب الحديث غير الموثوق فيها «ما من نبت ينبت إلا وتحته ملاك مُوكّل به حتى يُحصد».
وأشهر حديثين يُؤثران فى المسلمين ويُعدّان من الفكر الدينى لأنهما غير صحيحين ولم يردا فى أى كتب صحيحة للحديث: «تناكحوا تناسلوا فإنى مباه بكم الأمم يوم القيامة- من يرى منكم منكرا فليقوّمه بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان»، ويؤكد هذا أن الفكر الدينى يكون لدى الجهال مؤثرًا، ربما بأكثر من الدين ذاته.
وفى كتابنا «حقيقة الحجاب وحجية الحديث» أثبتنا أن الأحاديث تنقسم إلى ثلاثة أقسام: المتواتر وهو حديث واحد، والمشهور وهما حديثان فقط، والباقى أحاديث آحاد. وقد صدرت فتوى من الأزهر بتاريخ أول فبراير ١٩٩٠ بأن أحاديث الآحاد ظنية وليست قطعية، فهى لا تصح لتأييد حكم أو لفرض عقوبة، وإنما تؤخذ على سبيل الاستئناس والاسترشاد.
وقد كان الناحلون «المُختْلقُون» للأحاديث يقولون «إذا أعجبنا الرأى صيرّناه حديثا»، ويقولون «نكذب له- أى للنبى- ولا نكذب عليه».
والقياس هو استنباط حكم من حكم آخر سابق عليه لوحدة العلّة بينهما. وعلماء المنطق الحديث يرون أن القياس لا يأتى بجديد أبدًا. لأن النتيجة تكون مضمّنة فى المقدمة. مثال ذلك: سقراط إنسان «مقدمة كبرى» وكل إنسان فانٍ «مقدمة صغرى» وتكون النتيجة: إذن فسقراط فان. وهى ليست نتيجة لأنها مضمنة فى المقدمة الكبرى «سقراط إنسان» لما هو ملاحظ ومؤكد من أن كل إنسان فان. ويلجأ المناطقة المحدثون إلى طرق أخرى للوصول إلى أحكام جديدة، ليس المجال مناسبًا لبسطها.
وأما الإجماع فهو وهم فى وهم. لأن أمة محمد «المؤمنون الذين غلب وصفهم بالمسلمين» لم يجُمعوا على أمر– بعد وفاة النبى- سواء فى السياسة أو فى الفقه. فقد عارض بعض من الخزرج بقيادة سعد بن عبادة رئيسهم خلافة أبى بكر وعمر، وتخلّف على بن أبى طالب عن مبايعة أبى بكر، حتى توفيت فاطمة زوجته وبنت النبى بعد ستة أشهر، فبايع. وقد عارض الهاشميون عثمان بن عفان، وعارض الأمويون والخوارج علىّ بن أبى طالب. وعارض الهاشميون الخلافة الأموية. وعارض العلويون الشيعة خلافة العباسيين، وهكذا، ظل الخلاف السياسى ناشبًا أظفاره فى الأمة، طوال التاريخ وحتى الوقت الحاضر. أما الخلاف فى الفقه فهو يبين- على الأقل- من تفرق السنة فى مذاهب أربعة هى الحنفية «نسبة إلى أبى حنيفة»، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. وتفرق الشيعة فى أكثر من مذهب أشهرها الاثنى عشرية، والزيدية، والإسماعيلية.
فأين يكون الاجماع إذن؟ إن استعمال هذا اللفظ ربما يكون ليعنى توافق عدد من الناس على رأى معين، وربما كان يستعمل للمبالغة، كمن يصف الأمة بأنّهم من أهل «موافقون موافقون»، يُفرض عليهم الرأى وتُفرض عليهم الموافقة. هذا هو تحليل المنهج الذى وضعه الشافعى، يوهم الناس بأنه يقدم لهم الدين خالصًا فى حين أنه يضخّم ويُكثّر من الفكر الدينى؛ ذلك أنه على ما سلف لا يصح منه إلا القرآن وبعض أحاديث النبى؛ وبهذا يصير الأمر عودًا على بدء، فالنصوص فى القرآن والأحاديث غير الأحادية، لا تنطق بذاتها ولا تفض مضمونها ولا تقطع بما فيها، إنما يقوم المفسرون بذلك، وهم يخضعون لأهواء الساسة، ومجال الزمان وطباع المكان.
وأشهر التفاسير القرآنية، تفسير الطبرى وتاريخ الطبرى الذى قصد منه اكتمال تفسيره «أبوجعفر ابن جرير ٨٣٩-٩١٣م»، وتفسير القرطبى، وتفسير ابن كثير، وتفسير الجلالين. ويرى البعض- خاصة من المحدثين- أن هذه التفاسير تتضمن خرافات وتنطوى على إسرائيليات وبذلك فإنها تكوّن وتضخم الفكر الدينى الشائه. فلقد اتخذ المفسرون من الأساطير الإسرائيلية مرجعًا لهم وسندًا، بل تبنوها كأنما هى حقائق.
هذا فضلًا عن عدم وجود منهاج للتفسير، ولجوئهم إلى ذات الأسلوب الإسرائيلى فى تفسير الأسماء الأعجمية تفسيرًا يلصقها بلغتهم، فيقال عن آدم إنه سُمى كذلك لأنه خُلق من أديم الأرض «كأنه من طين فقط»، وعن إدريس أن اسمه مشتق من الدرس، لأنه كان كثير الدرس «الدراسة» مع أن الاسم تصحيف لاسم أوزير المصرى، صحّفه الإغريق إلى إذريس، ونطقه العرب إدريس.
وإلى جانب التفاسير، توجد السيرة النبوية، وتطلق على حياة النبى. وأول من كتب فيها محمد ابن اسحاق «٧٦٨م» فى كتابه «المغازى والسير» بأمر من المنصور العباسى، ثانى الخلفاء العباسيين، أى أن السيرة النبوية كتبت بعد أكثر من قرن من وفاة النبى، وكانت كتابتها بأمر من السلطة، ومن ثم فقد روعى فى كتابتها أن توافق السلطة، ودليل ذلك أنها سميت بالمغازى، كما أنها اعتمدت فى تحريرها على الروايات المتشافهة لعدم وجود تدوين قبل ذلك. ومع كل هذا العوار، فإن سيرة ابن إسحاق هذه اختفت تمامًا. وظهر بديل منقح لها فى سيرة ابن هشام «ابن هشام عبدالمللك الحموى، المتوفى عام ٨٣٤م» وهى أهم السير المتداولة حاليًا، والسيرة الحلبية. وكل كتّاب السّير كانوا يلاحظون الوضع السياسى، فألحوا على بيان الغزوات والسرايا، وأظهروا النبى على أنه قائد عسكرى أكثر مما كشفوا عن دعواه ونضاله فى سبيلها، هذا فضلًا عن الحشو الكثير وعدم تبيان المصادر، مما ملأها بالخرافات والإسرائيليات التى كانت رافدًا ضخمًا لتكوين وانتشار الفكر الدينى، وغلبته على الدين والشريعة.
وبالإضافة إلى كل ذلك، توجد المدائح والتواشيح والأوردة والأغانى والأناشيد، وكلها بغير مراجع ولا تحقيق ولا توثيق، وفيها ما يشوه الفكر الدينى المستقيم وينحرف به إلى أباطيل وأساطير وترّهات، تضر أكثر مما تفيد.