رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافى يكتب: العطر الحرام.. السيرة الكاملة للرائحة

أشرف عبدالشافى
أشرف عبدالشافى

لا أظن أن عطرًا جميلًا فى الهواء يمكن أن يكون ذنبًا إلا إذا كنّا نعيش فى غابة حيوانات مفترسة تثير الروائح غرائزها الجنسية، لا أظن أن إنسانًا خلقه الله فسواه ونفخ فيه من صورته يمكن أن ‏يتحول إلى كلب هائج أو ذئب جائع يتشمم عطر النساء ليروى ظمأ شهوته، ومن يشعر بأن ذنبًا ينتظره إن قرأ هذا الكلام فعليه أن يبعد أنفه، فأنت حر فيما تختار، لكنك غير قادر على التحكم فى ‏حاسة الشم إن كان الله قد أنعم عليك بها فكيف تقاوم عطر الياسمين مثلا وهو يلفح وجهك مع هواء خفيف؟!. الروائح ليست طيبة كلها، فهناك رائحة الخيانة والغدر والكراهية والعفن، وفى سوق ‏شعبية فقيرة جلست سيدة تبيع الأسماك وتنظفها للزبائن، وفجأة تألمت وراحت تصرخ وتعض الأرض حتى انزلق من بين فخذيها طفل راح يعوم وسط أمعاء الأسماك ومصارين القراميط المخلوطة ‏بالدم، وظلت الرائحة الغريبة تسكنه فهى شهقات الميلاد التى لم يعرف غيرها من الحياة، وقضى العمر يلهث وراء حاسة الشم، يريد أن يعتصر الأشياء ويقطرها، فليس لأى شىء معنى سوى ‏بالرائحة، أما الكرامة والفضيلة والنبل والاخلاق فلا رائحة لها، إنه بطل رواية «العطر» للألمانى «باتريك زوسكيند»، الذى أصابته حمى الشم ومتعته مع النساء لا تهدأ إلا وهو يقتلهن بحثًا عن ‏الرائحة التى تسكن أجسادهن، فكان عبقريًا فى البحث، ومجرمًا وسفاحًا ومجنونًا وحيوانًا، وهو يشم الدم.‏

والرائحة أعزك الله هى المكان واللحظة التى تسكن الروح، فقد تُحبها وتسير معها على كوبرى قصر النيل وتحذرك من الإفراط فى تناول القهوة «علشان صحتك» ثم تتوها من بعضكما فى زحام ‏الحياة، وقد تتزوج هى من دون أن تطلق اسمك على أول مولود لها، لكنك فى لحظة واحدة ستراها بجوارك، فها هو عطرها القديم يمر كنسمة تفتح باب ذكريات قديمة، وأحيانًا نشم رائحة الأحبة فى ‏كف اليد أو فى الهواء فنظل نطاردها بكل الحواس ربما نمسك بها، ولأجسادنا روائح، حتى ماء الرجل وماء المرأة لهما رائحة تظل خاصة بكل منهما حتى الموت. ‏
ويوصيك «أوفيد» صاحب كتاب «فن الهوى» بأن تتعطر لمحبوبك وتبتعد عن تناول مأكولات كريهة الرائحة (بصل وتوم وكشرى وخلافه) فإن ذلك يجلب النفور، كما يقول ابن حزم الأندلسى ثانى ‏أساتذة الحب بعد أوفيد، ويقال إن عطر كليوباترا هو الذى فتن أنطونيو قبل جسدها المنحوت، ولا أظن الحياة تكتمل من دون العطر الذى لا يكون عطرًا إلا إذا ارتبط بأنثى تعرف أن جسدها مخلوق ‏لرائحة بعينها فيمتزجان معًا لتكوين أسطورة اللحظة التى تظل عالقة بالذاكرة، وفى قلب باريس كادت الآنسة «جابرييل شانيل» أن تصاب بالجنون بحثًا عن هذا المعنى! كان طلبها واضحًا ومحددًا ‏وبسيطًا: «أريد عطرًا يتماهى مع المرأة ولا يكون أقوى منها، ويبقى ليلة كاملة»! ومع ذلك فقدت الأمل وأصابها اليأس، فكل صانعى العطور الذين جربتهم خذلوها وفشلوا فى تحقيق حلمها، لكن ‏سيدة الموضة فى القرن العشرين تسّمرت وهى تشم عطر الزجاجة الخامسة من المجموعة التى عرضها عليها»: «أرنست بيكس الروسى القادم إلى باريس بحثًا عن فرصة فى عالم التركيبات ‏العطرية»، فهتفت: ها هو، وعندما سألها «بيكس» ما الاسم الذى ستختاره لهذاالعطر؟، ابتسمت وقالت ببساطة: الرقم خمسة، ونجح الاختيار، وتسابقت الفاتنات على العطر الجديد «شانيل خمسة» ‏المصنوع من خشب الصندل، والفانيلا، وزهرالبرتقال والذى أصبح شهقة القرن العشرين العظيمة. ‏
والرائحة هى التعبير عن الجنس فى عالم الكلاب وكثير غيرها من الحيوانات، فلا يثار الكلب ولا يفكر فى الجنس أصلًا إلا إذا أطلقت «الكلبة» ريحًا معينًا معجونًا بنار الحب والرغبة واللوعة، ‏ولم يكتشف العلماء ذلك إلا بعد أن دفع أحدهم الثمن غاليًا، فقد عكف فى معمله يحلل تلك الرائحة، وعندما خرج ظلت الرائحة ملتصقة بملابسه فلاحقته عشرات الكلاب فى مشهد سينمائى غارق فى ‏الكوميديا.‏
وكان الكاتب «جيوفانى أربينو» مجهولًا قبل أن يكتب روايته «عطر امرأة» وقبل أن يتحمس لها المخرج العبقرى «مارتن بروست» والمرعب «آل باتشينو».‏