رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

على مبروك يكتب: عدم ولاية غير المسلمين‏.. هل هى ‏من الدين حقًا؟ ‏

علي مبروك
علي مبروك

لو تصور المرء حوارًا بين من ينسب نفسه إلى المدنية، وبين خصمه الساعى إلى أسلمة الدولة‏،‏ (وليكن حول قاعدة عدم جواز ولاية غير المسلمين)، فإنه سيجد أن من ينسب ‏نفسه إلى المدنية لا يعرف ما يرد به على خصمه، إلا أن جملة دعاواه، ومن بينها دعوى عدم جواز الولاية، لا تتفق مع ما تقوم عليه دولته (المدنية) من مبدأ عدم التمييز ‏بين البشر على أساس الدين، أو غيره. وعندئذ، فإن الساعى إلى أسلمة الدولة سوف يرد على خصمه المسكين بأنه ليس مشغولًا بتعارض دعاواه مع ما تقول به المدنية، ‏طالما تأتى متفقة مع ما يقول به الدين.‏

وبحسب ذلك، فإن صاحب خطاب الأسلمة لا يكتفى بإحراج خصمه المسكين عبر هذا الوضع للمدنية فى تعارض مع الدين، بل عبر ترسيخه لمقولة إن دعوى عدم جواز ولاية غير المسلمين هى مما ‏يقول به الدين. ولعله يلزم التنويه، هنا، بأن دعاة الأسلمة يقيمون احتجاجهم على سائر دعاواهم على العموم، على قاعدة أنها من فرائض الدين ولوازمه. فهل هى فعلًا هكذا، أم أنها محض قواعد اجتماعية ‏وسياسية راحت تنسب نفسها إلى الدين لتكتسب منه الرسوخ والحصانة وقوة الإلزام؟
وإذا كانت الخطوة الحاسمة فى جعل قاعدة ما جزءًا من الدين تتمثل فى التماس أساس لها من القرآن خاصة، فإنه كان لا بد لفعل الالتماس هذا (وهو فعل معرفى بالأساس)، أن يكون موضوعًا لتحليل ‏يكشف عما فيه من قراءة تعتبر نفسها قرآنًا. ومن هنا لا بد من الإلماح إلى الآلية المهيمنة على قراءة القرآن، على النحو الذى يؤدى إلى إنتاج دلالة بعينها لخدمة موقف اجتماعى وسياسى معين. وقد ارتبط ‏هذا الاستهلال بالقصد إلى تحرير القرآن من المسئولية عن قول بعينه فى مسألة محددة، لتوضع (هذه المسئولية) على كاهل آلية القراءة المهيمنة على التعامل معه. فمنذ اللحظة التى يصبح فيها القرآن ‏موضوعًا لفعل القراءة (الإنسانى بطبيعته)، فإنه ليس لأحد أن يقطع بأن القرآن يقول كذا فى مسألة ما، بل يتوجب عليه تقرير أن فعله القرائى يوجه القرآن إلى هذا القول فى تلك المسألة. وحين يدرك ‏المرء أن القرآن قد أصبح من لحظة تنزيله موضوعًا لقراءة، فإنه يلزم تأكيد أن الكثير مما ينسب للقرآن قوله، إنما هو نتاج فعل قراءته بالأحرى. وهنا فإنه إذا كان فعل القراءة فعلًا بشريًا، بطبيعته (وبما ‏يعنيه ذلك من أن ما ستجرى نسبته إليه سوف يكون بشريًا بدوره)، فإن نسبة القول إلى القرآن (ذى المصدر الإلهى) فى المقابل، إنما تقصد إلى جعله قولًا إلهيًا، وعلى النحو الذى تستحيل معه زحزحة ‏الدلالة المراد تثبيتها به. وهكذا يفعل كل من يقصدون إلى تثبيت موقف ما (اجتماعى أو سياسى خاصة)، حين يجعلون منه موضوعًا لقول إلهى أورده القرآن، متجاهلين أن ما يفعلونه هو فعل قراءة، ولو ‏اكتفوا بمجرد الاقتباس من القرآن.‏
ولأن ثمة من قد يربط فعل القراءة عنده بأعمال التفسير والتأويل فحسب، فإنه يلزم تأكيد أنه يتجاوز مجرد ذلك، وإلى حد أن مجرد استدعاء آية قرآنية للقطع بها فى مسألة ما، دون أن يكون هذا الاستدعاء ‏مصحوبًا بأى شروح أو تفسيرات، هو فعل قراءة. وذلك من حيث يعرف من يستدعى آية من القرآن فى موقف بعينه، أن هذه الآية، استنادًا إلى نوع المعرفة المستقرة بين الجمهور المتلقى، سوف تنتج ‏الدلالة التى يقصد إلى تثبيتها خاصة. إن ذلك يعنى أن إنتاج دلالة القول القرآنى بمجرده لا تنفصل عن المعرفة السابقة المتداولة بين الجمهور، وهى معرفة إنسانية بطبيعتها، فضلًا عن أنها تكون نتاجًا لفعل ‏القراءة. وهكذا فإن المرء يكون ممارسًا للقراءة، حتى وهو لا يفعل إلا أن يستدعى الآية بمجردها من القرآن، ما دام ما أنتجته القراءات السابقة سوف يلعب الدور الحاسم فى إنتاج دلالتها.‏
وعلى العموم، فإن القرآن، بمجرد دخوله دائرة الاستخدام الإنسانى على أى نحو من الأنحاء (وأعنى كموضوع للتفسير أو الاقتباس)، يصبح موضوعًا لفعل قراءة وبما لا بد أن يتبع ذلك من أن كل ما ينتج ‏عن هذا الفعل هو من قبيل النتاج البشرى. فهو يدخل، بالقراءة، فى بناء تراكيب تنتمى لعالم البشر، ولا يمكن الادعاء، أبدًا، بأن هذه التراكيب ذات أصل إلهى. ولعل الوعى بالطبيعة البشرية لتلك التراكيب، ‏يظهر فى حرص علماء المسلمين على إنهاء قولهم فى مسائل الدين، بتعبير والله أعلم، إقرار منهم بالمسافة الفاصلة بين ما يقدمون من اجتهادات محدودة، وبين علم الله اللامحدود. إن ذلك يعنى أن أحدًا لا ‏يمكنه الادعاء بأن ما يقوله، يتطابق مع قول الله أو علمه، حتى لو كان لا يفعل إلا أن يردد آيات القرآن، وأعنى أن قوله سيبقى مجرد تركيب بشرى لا يطابق مراد الله أو علمه أبدًا.‏
ولعل ما يدعم فكرة أن ما يقوله الناس، منسوبًا إلى القرآن، هو قول القراءة (أعنى قراءتهم)، وليس قول القرآن، هو ما يكاد يبين للجميع من أنه ليس للقرآن قول واحد فى المسألة بعينها، بل إن له أقوالًا ‏فيها تتنوع، بحسب تنوع السياق الذى يتم طرحها داخله. وغنى عن البيان أنه حين يحتفظ القرآن، فى بنائه، بتلك الأقوال المتنوعة حول تلك المسألة بعينها، فإن رفع دلالة قول منها، وتثبيت التى تخص القول ‏الآخر، لا بد أن يكون مردودًا إلى فعل القراءة، وليس إلى القرآن. وهكذا، مثلًا، فإنه حين يشتمل القرآن على قولين مختلفين عن غير المسلمين (وأعنى النصارى خاصة)، أحدهما يحمل دلالة إيجابية، كقوله ‏تعالى: «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى».. المائدة:٨٢، والآخر ينطوى على دلالة سلبية، كقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء».. المائدة:٥١، فإن تثبيت ‏دلالة أحد القولين على أنها موقف القرآن المطلق والنهائى من النصارى، لا يكون قولًا قرآنيًا، بل فعل قرائى. حيث القرآن حامل للدلالتين (الإيجابية والسلبية) معًا، وفعل القراءة هو الذى يتجه إلى تثبيت ‏إحداهما على حساب الأخرى.‏
وبالطبع، فإن وجهة الفعل القرائى، تتحدد بنوع العلاقة التى تربط المسلمين بالنصارى فى وقت تحققه، وبمعنى أنه إذا كانت العلاقة الواقعية بين المسلمين والنصارى هى علاقة عداء وخصام، فإن فعل ‏القراءة سيقصد إلى تثبيت دلالة القول القرآنى ذى الطبيعة السلبية، باعتبار أنها المحددة لموقف القرآن النهائى والمطلق من النصارى. وأما إذا كانت العلاقة الواقعية بين المسلمين والنصارى علاقة مودة ‏وسلام، فإن فعل القراءة سيمضى- على العكس- فى اتجاه تثبيت دلالة القول القرآنى ذى الطبيعة الإيجابية، بما هى الحامل للموقف المطلق من النصارى. لكنه يبقى لزوم الوعى بالكيفية التى يجرى بها هذا ‏التوجيه للدلالة، وهو ما سيكون موضوعًا لمقال مقبل.‏