رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أوراق الخرباوى».. الكتاب الذى قادنى إلى التهلكة

جريدة الدستور

- «معالم فى الطريق» سحرنى بأسلوبه الأدبى
- تعاطفت مع نهاية سيد قطب المأساوية فأخذت أنهل من أفكاره

لا أعـرف الســبب الـذى من أجله كنت منذ طفولتى المبكرة أخفى حياتى الخاصة عن أسرتى، فمع حبى الكبير لهم جميعًا إلا أننى كنت أحبس أسرارى فى مكنون ذاتى، حتى مشاعرى المتنوعة فى الحب والفرح والإحباط والغضب والنجاح كنت أُعَبِّرَ عنها تعبيرًا سريًا فى نفسى، ويظل وجهى جامدًا لا يُعبر عن الذى يدور بداخلى، وبذلك تستطيع القول إننى كنتُ أفشل إنسان فى التعبير عن مشاعره، رغم أننى فى تلك الفترة المبكرة كنت قد بدأت فى كتابة الشعر الرومانسى الحالم.

ليس هذا فحسب، بل إننى حفظت كمًا من أشعار كبار شعراء المدرسة الرومانسية مثل الشابى وعلى محمود طه وإبراهيم ناجى وغيرهم، وأظن أنه يجب على كل الأسر فى هذه الأيام أن تُراقب أبناءها وتفتح معهم حوارات وتشجعهم على البوح بما يحدث لهم أو منهم خارج نطاق الأسرة، فقد تكون أسرارهم الخاصة من الخطورة بحيث إنها من الممكن أن تقضى على حياتهم أو على مستقبلهم.
كان هذا هو حالى، السرية التامة، وقد يتعجب كل أفراد أسرتى الكبيرة من الأسرار التى أكتبها فى تلك الأوراق، فالحقيقة أننى كنت لغزًا لم يستطع أحد فك طلاسمه، ولكن ظاهرى أمام أبى وأمى لم يكن مريبًا، فإلى الآن لم أكن أفعل شيئًا مُنكرًا، ولكننى كنت أخضع من حيث لا أدرى لتأثيرات جمة ومتنوعة من دعايات الإخوان، ولأن أحدًا من الكبار لم يكن يعرف ما يمر بى، لذلك لم يُحذرنى أحدٌ منهم، وقد يكون العكس هو الصحيح، فبعض أقاربى الكبار كانوا ناقمين على عبدالناصر لذلك انحازوا نفسيًا للإخوان، وكانت هذه الانحيازات تظهر فى حوارات كبار العائلة فى الجلسات التى كانت تجمع الأخوال أو الأعمام، ومع ذلك ظللت مخفيًا عن الجميع لا يعرف أحد شيئًا عنى، إلا أن الشىء الوحيد الذى لم أستطع إخفاءه هو حبى الجنونى للقراءة، نعم كنت أقرأ كل كتاب يقع فى يدى، فما بالك ومكتبة الزيتون العامة كانت بجوار بيتى.
وحين انتصف العام الدراسى لسنتى الدراسية فى الصف الأول الثانوى وأخذنا إجازة نصف السنة أصبحت مقيمًا بشكل شبه دائم فى مكتبة الزيتون العامة، وكنت حتى هذه الفترة قد قرأت كل كتب وروايات ومسرحيات كبار أدباء مصر، وكنت أقرأ من مكتبة أبى الروايات المترجمة عن أكبر أدباء العالم فى الحقبة الكلاسيكية، ولكن الأهم من كل هذا هو أننى كنت أقتنى فى بيتى كتاب «معالم فى الطريق» الذى اشتريته من سور الأزبكية بقروش قليلة، وسحرنى أسلوب سيد قطب بشكل كبير، ومع تعاطفى مع نهايته المأساوية أخذت أنهل من أفكاره التى زيَّنَها بأسلوب أدبى بديع، وإلى الآن عندما أحلل هذه الفترة من حياتى أجد أن حُسن لغة «قطب» أخفى سوء أفكاره، ومع تعاطفى معه كان من الطبيعى أن أقع فريسة لهذا الكتاب، فالمشاعر تُغطى على العقول فتجعلها لا تُحسن التفكير، وقد جعلنى «معالم فى الطريق» أظن أننا يجب أن نعرف أن القرآن انتشر تحت حماية السيف، وأننا يجب أن نفخر بذلك، كما يجب أن نوقن أن الصحابة كانوا من القداسة بحيث إنهم أصبحوا جيلًا قرآنيًا فريدًا لا يتكرر، وأننا يجب أن نُعيد حكم الله للأرض مرة أخرى بعد أن أصبح حكم البشر لأنفسهم حكمًا جاهليًا!
وفى المكتبة وأثناء قراءتى كتابًا آخر لسيد قطب اسمه «التصوير الفنى للقرآن» وجدت زميلًا لى اسمه «يوسف عابدين» كان معى فى المرحلة الإعدادية ثم فرَّقت بيننا المدارس، وكان مُنكبًا بتركيز شديد وبالورقة والقلم على كتاب موضوعه يدور حول أسماء الله الحسنى، وعندما استفهمته عن هذا الكتاب وعن مؤلفه أذكر أنه قال لى إن مؤلفه رجل صوفى اسمه القناوى أو القنوى، وأنه كان من تلاميذ محيى الدين ابن عربى، ولم أكن أعرف هذا القنوى فضلًا عن أننى لم أكن سمعت من قبل عن محيى الدين بن عربى، فقلت له ولماذا هذا الكتاب بالذات، عندئذ أغلق يوسف الكتاب وانتحى بى فى مكان قصى من المكتبة وقال لى سأقول لك سر الأسرار، وهو سر لا يعرفه أحد، ولكنى سأئتمنك عليه.. ويا لهول ما سمعت من يوسف.