رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أوراق الخرباوى.. كيف كرهت جمال عبدالناصر؟

جريدة الدستور

لم يكن فى المدرسة مسجد نصلى فيه الظهر وقت الفسحة، فكان أن اتفقت مع زملاء لى «بعضهم يشغل الآن مواقع قيادية فى مؤسسات سيادية، وبعضهم الآخر يشغل مواقع عليا فى جهات قضائية وتشريعية وتنفيذية» على أن نتوجه إلى حجرة الأستاذ «محمود» مدير المدرسة لنطلب منه تجهيز مسجد للمدرسة. كنت أشعر وأنا ذاهب معهم إلى المدير بأننى قائد معركة لنصر الإسلام، وتوقف زملائى خارج الحجرة ودلفتُ أنا سريعا للداخل، نظر لى المدير بتعجب ثم قال لى بلهجة سريعة: أيوه يا بنى، فيه إيه؟

نظرت خلفى فوجدت زملائى قد اختفوا جميعا، فحسمت أمرى وقلت بصوت منخفض: أنا تلميذ فى الصف الأول الثانوى ومعى مجموعة من زملائى، وكنا نريد أن نصلى الظهر أثناء الفسحة ولكن لا يوجد مكان فى المدرسة للصلاة.. قاطعنى بابتسامة: يعنى عاوزين مسجد، طيب يا سيدى برافو عليكم.. ابتسمت فرحا من هذا الثناء ونظرت خلفى للمرة الثانية فوجدت زملائى وقد ظهروا بعد اختفاء، فناداهم المدير ليدخلوا ثم قال لأحد المدرسين وكنا نطلق عليه اسم الأستاذ «حبَّذا» لكثرة استخدامه هذه الكلمة: جهز لهم المخزن اللى فى الحوش وبُكرة يكون جاهز للصلاة. فقال الأستاذ: ويا حبذا لو حضرتك تكلفنى بشراء حصير للمسجد. وأصبح لدينا مسجد انتصرنا فيه للإسلام!، مسجد أرفع أنا فيه أذان الظهر كل يوم، ويقف زميلى الحبيب «مجدى خميس» إماما فى الصلاة، «أصبح مجدى فى مستقبل الأيام أحد القيادات الكبرى فى البنك المركزى»، وكان مجدى بعد الصلاة يجلس متربعا يقرأ القرآن ونحن نتحلق حوله نستمع إليه بإعجاب شديد، والحق أن صوته كان جميلا جدا وكأنه الشيخ عبدالباسط الأمر الذى جعل أعداد المصلين تزداد يوما بعد يوم. ومن تصاريف القدر أن مجدى كان من المحبين للشيخ كشك، فضلا عن أن بيته كان قريبا من مسجده، فطلب منى أن أذهب معه لحضور خطب الجمعة التى يلقيها الشيخ، وعدت لمسجد كشك أستمع لخطبه وبكائياته عن الإخوان وشتائمه لباقى خلق الله، والغريب أننا كنا نضحك ونصل إلى قمة السعادة ونحن نسمعه يشتم رموز مصر، فالصحفية الكبيرة أمينة السعيد تصبح «لا أمانة ولا سعادة عليها إلى يوم الدين»، وعبدالحليم حافظ يتنفس تحت الماء «يكونش فاكر نفسه سمكة» وهكذا، حتى أصبح الشيخ كشك فى هذه الفترة هو الصحيفة الناطقة للمعارضة ذات الصبغة الإسلامية، ومن هذه الخطب وغيرها تم عمل «برمجة ذهنية» لأجيالنا، فالإعلام كله وقتئذ والكتب التى بدأت فى الظهور وأخذت تروى عن تعذيب عبدالناصر للإخوان، كل ذلك جعل اسم عبدالناصر لدينا مرتبطا بالوحشية، واسم الإخوان مرتبطا بالإسلام، وفى إحدى الخطب كدت أن أقوم منصرفا حينما هاجم الشيخُ الصوفية وقال ساخرا منهم: الواحد منهم بيفضل يقول الله، الله، الله، الله، طيب يا شيخ متقول عاوز إيه من الله، هوَّ لو حد قعد يقولى يا عبدالحميد، يا عبدالحميد، يا عبدالحميد، هاقوله متقول عاوز إيه ولا تتكتم!.
وحينما وجدت أن روحانياتى قد انخفضت مع توالى ذهابى للشيخ كشك قررت أن أنقطع عنه وأتفرغ للعبادة بشكل فردى، فعدت للصلاة فى الزاوية القريبة من بيتى والتى أصبحت فيما بعد مسجد الشهيد عاطف السادات، وعادت الأسئلة القديمة تُلح على عقلى مرة أخرى: كيف هو الله؟، وما الطريق إلى حبه؟، ولكننى قاومت هذه الأسئلة فى نفسى وقررت أن أقضى معظم يومى فى قراءة القرآن، وجزءا من ليلى فى التسبيح والذكر، وساعدنى على ذلك كتيبات أوراد بعض أعلام الصوفية التى كانت فى مكتبة أبى رحمة الله عليه، وبدأت أشعر حلاوة فى قلبى مع هذا الذكر، ولم يكن يعكر صفو ما أفعله إلا ظن أمى وإخوتى أننى أقرأ القرآن والأذكار وأصلى صلواتى فى المسجد لأتهرب من المذاكرة!. ولكن أحدا لم يكن يعرف مقدار اللذة الروحية التى كانت تغمرنى وقتئذ، وحينما عاودنى سؤال: كيف الله؟، قلت فى نفسى: لا أريد أن أعرف كيفيته، يكفينى أنه يعرف كيفيتى، وبِقَدَرِ الله تقابلت فى مكتبة الزيتون العامة مع يوسف الذى أرشدنى دون أن يدرى إلى حب الله.