رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دراما لا تمثل مصر


خمسون عامًا هى عمر علاقتى بشهر رمضان المبارك وعاداته وتقاليده.. خمسون عامًا من التغيرات الاجتماعية واختفاء عادات، ومولد تقاليد أخرى.. اختفاء مظاهر وظهور أخرى.. صُمت رمضان فى منتصف الستينيات طفلًا فى منزل كبير نلتف جميعًا حول طبلية الإفطار رغم وجود حجرة كبيرة بها ترابيزة سفرة وكراسى فخمة، ولكن كانت لمة الطبلية أهم مظاهر الإفطار.. كل الأسرة الأب والأم والإخوة وخادمة المنزل كلنا نجتمع على الأرض نحيط الطبلية وهى تمتلئ بما لذ وطاب.
المياه المثلجة لها مصدران، قلة المياه الفخارية ومياه بالأكواب تمتلئ بمكعبات الثلج المصنوع من خلال ثلاجة المنزل أو شرائها من بائع الثلج الذى يتحول إلى شخصية مهمة فى رمضان لو صادف صيامه صيفًا.. كنا ننتظر فى حديقة المنزل وعلى سلالمه أذان المغرب، ما أن نسمع مدفع الإفطار فى الراديو حتى تتحول آذاننا جميعًا إلى مؤذن القرية الذى صعد المئذنة، ومعه كوب ماء أو قلة فخارية ليعلن عبر نداء الله أكبر نهاية يوم الصيام.. كنا نتسابق من يقول إن المغرب أذن قبل الآخر.. سعادة بالإفطار وسعادة بالصيام.. صوت سيد الملاح والسمسمية، وما قبل المغرب صباح وأغانى الثلاثى المرح وابتهالات النقشبندى وأذان محمد رفعت ومسلسلات شويكار وفؤاد المهندس وشنبو فى المصيدة ثم الصبر فى الملاحات وآه يا زمن وشادية وفاتن حمامة، طقوس يومية تبدأ من بعد المغرب.. سماع المسلسلات.. اجتماع وزيارات عائلية عقب صلاة التراويح.. القرية كلها تسهر حتى يبدأ المسحراتى جولته، كنا نحيطه، ونحن أطفال، ثم تحولنا إلى انتظار تنبيهه ونحن كبار.. عائلة تحتكر المهنة والمناطق معروفة، والكل ينتظر سماع صوته حتى تبدأ وجبة السحور ورحلة إلى مسجد القرية لصلاة الفجر، إنشاد الشيخ إسماعيل عامر وأذان الشيخ سليم وإمامة الشيخ الراعى وسؤال بين الجميع من تخلف عن الفجر.. ما السبب ولِمَ؟ وشباب ينطلقون بعد الفجر للتمشية على الترعة أو لعب الكرة أو المذاكرة.. كانت سمات رمضان متشابهة، قراءة للقرآن أو سماع لأصوات كبار القراء عبر الإذاعة.. كانت أمهاتنا يعبن على شويكار دلعها، ولم تكن واحدة منهن تفكر يومًا إن دراما رمضان لن يكون الصوت فيها فقط هو الذى به بعض الدلع، ولكن مسلسلاته ستتحول فى مشاهد كثيرة منها إلى ما يُشبه أفلام البورنو فى الألفاظ والتمثيل.
اختفى المسلسل الكوميدى أو الدراما الهادفة، وتحول إلى مسلسل للعنف والقتل والاغتصاب والخيانة.. اختفى كبار القرّاء المصريين، وتحولنا إلى سماع قرآن يُتلى بأصوات خليجية.. تراجع المبتهلون والمنشدون وتحولنا إلى سماع أغانٍ بأصوات أجنبية.. تحولات دراماتيكية شهدها رمضان.
تحول محمد رمضان عبر الأسطورة وغيرها إلى بطل ونموذج.. اختفت المسلسلات الهادفة، وحلت محلها مسلسلات منحوتة من أفلام أجنبية.
اختفت الدراما المصرية الحقيقية رغم أن تكلفة ما صرف على حوالى ٢٠ مسلسلًا يقرب من المليارى جنيه.
ما يقرب من المليارى جنيه تم استثمارهما فى إنتاج مسلسلات شهر رمضان، وفى انتظار أن تعود بأكثر من مليارين آخرين من الإعلانات والبيع فى هذا الموسم، أو إعادة البيع؛ الدراما إذن صناعة استثمارية كبيرة تضارع أو تزيد الاستثمارات فيها على صناعات أخرى مهمة.
الهدف من الدراما ليس فقط المكسب السريع، وهو ما لن يتحقق، إذن هناك هدف آخر ربما يكون واضحًا، وربما يكون غير واضح للجميع، ولكنه واضح للأجهزة وللدولة، المستثمر فى أى مجال هدفه المكسب، ولن يضع قرشًا واحدًا، وهو يعلم أنه لن يعود عليه بمكسب وشركات الإنتاج لا تبعثر الملايين من أجل عيون النجوم أو من أجل إسعاد المشاهدين، بل هدفها الأول المكسب.
وإذا كان ذلك لا يتحقق فعلينا أن نبحث عمن يمول صناعة الدراما وعن هدفه الحقيقى من التمويل أيضًا، وأن تُطرح أسئلة من عينة: لماذا يتم دفع هذه المبالغ من شركات الإنتاج؟! وهل هى التى تدفع مباشرة أم أن هناك شركات أو جهات أخرى تقف وراءها لديها هدف آخر من ضخ كل هذه الأموال؟!
والشتائم المتبادلة ليست فقط الظاهرة الوحيدة، ولكن هناك أيضًا مجتمعًا آخر نراه على الشاشة، مصر ليست قصور التجمع والقطامية والكمبوندات الجديدة، وأبناؤها لا يركبون سيارات حديثة، أو يعيشون حول حمامات السباحة يمارسون الحب، ويعقدون الصفقات، ومصر ليست أيضًا المضيفة التى تبحث عن زبائن من الخليج ولا الضابط المرتشى أو الطبيب القاتل، ومصر ليست العشوائيات وحياة إبراهيم الأبيض أو غيره.
هناك مصر أخرى سقطت من حساب كتّاب الدراما منذ أعوام، نسى الكتّاب فتيات وسيدات مصر اللاتى يعملن فى أكثر من مهنة ليكسبن مالًا حلالًا، ونسوا آلاف السيدات اللاتى تحولن بحكم الظروف إلى سيدات معيلات لأسر، ولم يفرطن فى شرفهن، مصر الطبقة الوسطى أو ما تبقى منها، مصر الفلاحين والعمال البسطاء والضباط والجنود الشرفاء الذين غابوا، للأسف، عن الدراما.
ولم يكلف كاتب دراما نفسه أيضًا أن يضع بضعة مشاهد لعمال فى مشروع جديد فى الصحراء، أو يشقون طريقًا أو ينشئون مصنعًا، فى دراما أفلام الستينيات، رأينا عمال السد العالى وقناة السويس ومصانع الألومنيوم، وفى دراما هذه الأيام رأينا فقط السيارات أو جرائم الخطف أو الاغتصاب.
ظواهر كثيرة ومتعددة يجب أن تدرسها الدولة متمثلة فى المجلس الأعلى للإعلام وهيئتى الإعلام والصحافة ومركز البحوث الاجتماعية ووزارة الثقافة، والأهم هو دراسة تأثير غياب الدولة عن الإنتاج، وهو ما أراه سببًا رئيسيًا فى تدهور المسلسلات والإنتاج الإعلامى عمومًا، فالدولة عندما غابت لم ينتج القطاع الخاص رأفت الهجان ولا ليالى الحلمية ولا عشرات الأعمال المهمة، ومنذ غياب لافتة «قطاع الإنتاج يقدم» من تتر المسلسلات توقف الإبداع تقريبًا.
يجب أن تعود الدولة مرة أخرى وبقوة إلى الإنتاج، فالدراما صناعة مهمة وقوة ناعمة نستطيع أن نوصل بها ما نريد إلى كل شعوب المنطقة، ويمكن بها أن نوضح حقوقنا فى قضايا كبيرة، وأن تسهم فى محاربة الإرهاب بها بوقف سيل الأفكار الهدامة ومواجهتها.
الدراما ليست فقط مسلسلات للمتعة، ولكنها وسيلة تسهم فى بناء الشعوب.