رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافى يكتب: زكى طليمات.. المشاغب الذى أسس جمعية «الحمير المصرية»‏

أشرف عبدالشافى
أشرف عبدالشافى

أوائل التسعينيات كنت أقوم بعمل ملف صحفى عن الحيوانات فى الأدب والفن، وكان جمع المعلومات غاية فى الصعوبة، إذ لم يكن العالم قد عرف محركات البحث، والأرشيف ‏المتاح مبعثر فى اتجاهات متعددة، ونجحت فى جمع الكثير منها، لكننى توقفت عند قصة جمعية «الحمير المصرية»، وخرجت منها بأن زكى طليمات راجل كويس، وأنه صاحب ‏دور آرثر فى فيلم الناصر صلاح الدين، وظل خالدًا بعبارته الشهيرة لجميلة الجميلات فيرجينيا: «فى ليلة أقل جمالًا من ليلتنا هذه ستأتين راكعة إلى خيمتى».‏


مضت سنوات حتى وقعت عينى على مذكرات «فتوح نشاطى» الذى سرد الكثير من حكايات طليمات، ونسى الحديث عن نفسه تقريبًا، ذلك أن طليمات شخصية ساحرة استحوذت على مشهد مصر الفنى ‏والسياسى فى العشرينيات والثلاثينيات بصورة غير مسبوقة، فهو ذاك الشاب المثقف الذى يحلم بنهضة فنية مصرية، الذى وثقت فيه السيدة روز اليوسف قبل أن تتزوجه ودخلت حياته فملأتها حضورًا ‏بذكائها وثقافتها الواسعة، وفى مقهى صغير بجوار سينما ديانا جلست روز اليوسف مع عدد من المثقفين، وعرضت عليهم فكرة تأسيس مجلة فنية، واقترح طليمات «الأدب العالمى» اسمًا لها، لكن روز ‏اختارت اسمها، وحصلت على الترخيص فى أغسطس ١٩٢٥ لتنهى جهادها فى المسرح وتؤسس أهم مجلة فنية فى تاريخ مصر، وطليمات هو الممثل والمخرج والكاتب الموهوب الذى ملأ الحياة ‏حضورًا، ووضع حجر الأساس لفن المسرح بتأسيس معهد الفنون، وخطط لتأسيس المسرح المدرسى وكون مسرح الأقاليم، الذى أصبح نواة للثقافة الجماهيرية. ‏
ولم تكن «جمعية الحمير المصرية»، التى دعا إلى تأسيسها سوى جزء من تلك المنظومة التى رسمت ملامح شخصيته وطريقته فى التفكير، فقد عاد الشاب المثقف من باريس وهو يحلم بمعهد للفنون ‏المسرحية، تكون مهمته الأولى تمصير الأعمال العالمية وإعادة تقديمها للجمهور المصرى، ونجح فى التأسيس، وشهدت مصر عام ١٩٣٠ إنشاء أول معهد فى الشرق الأوسط لفنون الديكور والإخراج ‏والتمثيل، لكنه فشل فى الثانية، ولم يسعفه الوقت لتمصير الأعمال المسرحية، إذ صدر قرار بإغلاق المعهد بعد عام واحد من تأسيسه بضغوط الاحتلال البريطانى وحاشية الملك فؤاد، التى حذرته من ‏خطورة المسرح على العرش الملكى، ولم يكن الملك وحيدًا فى معركته ضد الفن والمسرح وطليمات، فها هو سلاح الخلاعة والرقاعة والمحافظة على الأخلاق يرتفع عاليًا فى قبضة الشيخ محمود ‏أبوالعيون، وكان نجمًا أزهريًا فى ثورة ١٩١٩، ويحتل مكانة كبيرة لدى الرأى العام، كما يقول رجاء النقاش، وبالفعل تم إغلاق المعهد بعد تسعة أشهر (أغسطس ١٩٣١) بسبب مخالفته العادات والتقاليد! ‏وضاع الحلم الكبير، ولم تعد هناك حيلة إلا «الصبر»، ففكر طليمات فى جمعية تضم الفنانين والمثقفين تكون مهمتها الأولى الصبر على البلاء الملكى والرد على تعنت سلطات الاحتلال بطريقة مصرية ‏خالصة، وخلال أسابيع كان هناك ٣ آلاف حمار مصرى يقودهم زكى طليمات، الذى حصل على لقب الحمار الأكبر مناصفة مع شكرى راغب، مدير دار الأوبرا المصرية آنذاك، وهذا هو اللقب الأعظم ‏بين عدد من الألقاب الأخرى، التى تتدرج من الجحش الصغير للعضو المستجد، وتصل إلى «حامل البردعة» لمن يصبر أكثر من ٢٠ عامًا، ويقضى فترة أطول فى الجمعية، وكان العقاد وطه حسين ‏وتوفيق الحكيم، ومن بعدهم الفنانة نادية لطفى أكثر المتنافسين على اللقب، بينما كان عشرات يكافحون للحصول على رضا الحمار الكبير وصاحب اللقب الذى طلب من الجميع أن تكون الجمعية شعبية ‏وليست نخبوية، بمعنى أن تقدم خدمات وتقترب من الجماهير، فتشكلت مجموعات لمحو الأمية وتشجير الشوارع وتنظيم الرحلات الداخلية للشباب وتوسعت الأنشطة، فوصلت إلى جمع التبرعات للمرضى ‏وشراء أجهزة طبية للمستشفيات، وبعد كفاح طويل أعيد افتتاح المعهد عام ١٩٤٤، ليكون نواة حقيقية لأكاديمية الفنون.‏
عبقرية فكرة «جمعية الحمير» لم تأتِ من فراغ لكنها تفتح جانبًا آخر فى شخصية زكى طليمات، الذى كان شابًا صغيرًا حين وقع فى غرام المسرح، وراح يكتب المقالات عنه، وترك مدرسة المعلمين ‏ليعمل بفرقة جورج أبيض، ونشر مقالًا بصحيفة المقطم عن الأداء التمثيلى فى مصر، وسخر من جورج أبيض نفسه! وهنا قامت الدنيا ضده، ولم يكن يعلم أنه ارتكب جريمة لمجرد كتابة رأيه! وتم ‏التضييق عليه فى الفرقة حتى تركها عام ١٩٢٣، وذهب بشهادة البكالوريا إلى حديقة الحيوان ليعمل موظفًا يراقب الزرافة ويهتم بشئون النسانيس، وهناك جاءت فكرة «الحمير»، وجاءت أيضًا نظرية جديدة ‏فى فن التمثيل أشار إليها الناقد أحمد سخسوخ، فقد ربط زكى طليمات بين سلوك الحيوان والممثل على خشبة المسرح، فحركة الأسد وطريقته تلائم أدوار الملوك، كما أن حركة القرد البهلوانية تناسب ‏شخصية المهرج، بينما الحال كذلك وطليمات مازال يراقب النسانيس، إذ قرأ إعلانًا عن منحة لدراسة الدراما والمسرح على نفقة الدولة، فذهب ووقف أمام لجنة المحكمين، ونال إعجابهم، لكن اللجنة ‏اختارت «يوسف وهبى»، إلا أنه اعتذر ليسافر طليمات لدراسة الإخراج المسرحى فى فرنسا عام ١٩٢٤، وعاد بعد أربع سنوات ليصنع المعجزة، ويؤسس معهدًا لتعليم فن التمثيل، ويتحدى الملك فؤاد ‏بجمعية الحمير المصرية، كل ذلك ومازال الفنان الكبير مجرد عبارة شهيرة فى فيلم!.‏