رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خمسون عامًا على ثورات شباب 68


سيتوقف المؤرخون طويلًا عند حدثين فى القرن العشرين بصفتهما الأكثر تأثيرًا. الأول الانتفاضات الطلابية التى وقعت منذ خمسين عامًا فى مايو ١٩٦٨، ثم انهيار الاتحاد السوفيتى فى ١٩٩١. فى مايو منذ خمسين عامًا خرج الطلاب فى باريس يبلورون حلما خارج الأطر الرأسمالية القائمة الراسخة، وخارج الأطر الاشتراكية التى فقدت مصداقيتها مع الغزو السوفيتى للمجر عام ١٩٥٦.
لم تعد لا هذه الاشتراكية ولا تلك الرأسمالية مقنعة للشباب. فى بلدانهم عانى الطلاب الفرنسيون من الفقر ومن عجز الدولة عن توفير العمل للمتخرجين، ومن قبضة الشرطة الجامعية على حرية الحركة داخل المساكن الجامعية، مع التخطيط للحد من عدد الطلاب الذين سيقبلون بالجامعات. وأكدت أمريكا بحربها المستمرة القذرة على فيتنام أنه لا رجاء فى النظم التى تتمسح بالبرلمانات والدساتير وهى تبيد شعوبا أخرى، كما أكد الاتحاد السوفيتى أنه لا رجاء فى نظم تتمسح بالاشتراكية وتغزو تشيكوسلوفاكيا فى سبتمبر من العام نفسه ٦٨. كان البحث يجرى عن حلم آخر، خارج كل ما هو قائم، ربما تكون أيقونته «جيفارا» الذى لم يجسد قط نمط سلطة أو حكم، لكن نمط مشروع ثورى.
لهذا كتبت «فلورنس جوتييه»، إحدى قيادات الحركة الطلابية الفرنسية، عام ٦٨ تقول: «أدركت أن القهر فى كل مكان، فى المكسيك، وفى الاتحاد السوفيتى، وفى كل مكان.. وسرعان ما تطايرت بنار النقاش بيننا نحن الطلاب كل أنمطة التفكير التقليدية. وأى معجزة؟ لقد تفتح كل شىء!». أيضا لخص أحد المفكرين الفرنسيين ما جرى عام ٦٨ فى فرنسا بقوله: «تمرد الطلاب على (الجامعة الإقطاعية)، وتمرد تلاميذ الثانوية على (الثانوية- الثكنة)، وتمرد العمال على (المصنع- المعتقل)، وتمرد اليساريون الجدد على اليسار الشيوعى الرسمى» الذى سارع بوصفهم بالمغامرين!.
وقد بدأت الأحداث، كما هى العادة، بواقعة صغيرة عندما اعتقلت الشرطة الفرنسية طالبا من أعضاء لجنة «أنصار فيتنام» فى ٢١ مارس، فاحتل الطلاب مكاتب الإدارة فى جامعة نانتير، ثم تطورت الأحداث إلى احتلال الطلاب ساحة السوربون، وانخراط النقابات ورجال الفكر والسياسة وصولا إلى مظاهرات ضخمة بلغ عدد المشاركين فيها نحو مليون مواطن فى باريس ومليون آخر فى ثلاثين مدينة أخرى فرنسية!، وفى مايو منذ خمسين عاما كان العالم كله يتململ، باحثا عن طريق آخر، خارج العالم الثنائى القطب حيث القوتان العظميان وحدهما: أمريكا والاتحاد السوفيتى. وكان واضحا أن شباب ٦٨ فى باريس لا يمثلون أنفسهم فحسب، بل العالم أجمع، لأن المظاهرات اندلعت ممتدة من باريس إلى إيطاليا، حيث تشكلت الألوية الحمراء فى ١٩٧٠، وإلى اليابان حيث ظهرت حركة «زنكا كورن» اليسارية المختلفة، وفى ألمانيا كانت قد تشكلت بالفعل حركة الرفض عام ١٩٦٧، وعمت المظاهرات فى البرازيل والأرجنتين وبيرو والمكسيك، حيث بلغت الانتفاضات الطلابية أعلى درجات العنف، وفى أمريكا زاد نفوذ الحركة المعارضة لحرب فيتنام، أما فى المعسكر الشرقى فأراد ألكسندر دوبتشك إقامة ما سماه «اشتراكية ذات وجه إنسانى» اعتمادا على حرية التعبير والاقتصاد غير المركزى، وفى الصين أمسكت الدولة بزمام الانتفاضة وبدأت من نفسها «الثورة الثقافية» عام ٦٨!.
ذلك العام الذى حفر وجوده بقوة فى تاريخ القرن العشرين ولم يترك بقعة فى الأرض من دون تأثير. الحلم بالتغيير خارج السياق الاشتراكى السوفيتى، وخارج السياق الرأسمالى العالمى- كان يخفق فى قلب العالم، قبل مايو ١٩٦٨بشهور، أو فى مايو، أو بعده بشهور، وقد أيقظ هذا الحلم شباب مصر أيضا، فخرجوا هم أيضا بهمومهم فى فبراير، ليواجهوا غياب الحريات السياسية، وقضية الأرض المحتلة، ولم يسعفهم فى ذلك لا اليسار المصرى التقليدى، ولا دعوى النظم القومية، ولا الرأسمالية المحلية والعالمية.
خرجوا بحثا عن عالم جديد، وكانت الأحكام المخففة بحق ضباط سلاح الطيران عقب النكسة الشرارة التى أشعلت الغضب بين عمال حلوان فى ٢١ فبراير، ثم خرج الطلاب تأييدا لمطالب العمال، وبحثا عن عالمهم، وطرحوا فى بيان كلية الهندسة جامعة القاهرة ثمانية مطالب، لاحظ د. أحمد عبدالله أن ستة مطالب منها تتعلق بموضوع الديمقراطية والحريات، بينما يركز مطلبان فقط على قضية أحكام الطيران. لم تتخلف القاهرة فى مايو منذ خمسين عاما عن أحلام العالم بعالم جديد، ومشت تعزف لحنها مسموعًا ورنانًا فى أنشودة البشرية الكبرى التى تسعى منذ خلقها إلى الحرية والعدالة معا.