رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد العسيري يكتب: الألم فى التجمع.. والأمل فى مرسى علم


منذ سنوات بعيدة كانت تدهشنى موسيقى أغنية لمحمد ثروت اسمها «طيور النورس».. وكنت أرددها معه دون أن أعرف وأنا الطفل الصعيدى الصغير ماذا تعنى «طيور النورس» تلك.. لم أكن أعرف شكلها.. ولم أشاهد لها صورة فى أى مجلة.. الطيور التى كنا نعرف أشكالها لم تكن تتعدى القمرى - الزرزور - أبوقردان - أبوالعنز - الحمام.. وفيه طير غريب كان يحلو له أن يلهو فى الترع فى مواسم محددة كنا نسميه «الوز العراقى».
وفى أول مرة نزور فيها «جنينة الحيوانات» فى رحلة، وكنا على أبواب الشباب.. شاهدنا طيورًا لكن النورس هذا لم يكن من بينها أبدًا.
فجأة وجدته أمامى فى مرسى علم.. بالتحديد فى محمية «وادى الجمال».. أسراب من طيور النورس تكاد تقف على كتفى، ورجل بسيط من رجال قبيلة العبابدة يمارس طقسه المعتاد فى إطعامها.. وشاب من علماء وزارة البيئة يشرح لنا بحب «أنواع الطيور النادرة» التى اختارت هذا المكان بالذات من بين كل بقاع الدنيا، ليصبح «الرست هاوس» بالنسبة لها.. غير تلك الأنواع التى اختارت «مرسى علم وطنًا لها».
شوارع من الأمل كانت تنفتح مع كل كلمة جديدة يضيفها أحمد غلاب أو د. أحمد عبدالرازق، وأحدهما من أبناء قنا والآخر من السويس، لكنهما يشتركان ليس فى العمل بهذه القطعة البعيدة من جنوب مصر على البحر الأحمر، ولكن فى محبة الطبيعة. تستمع إليهما مثلما تستمع إلى د. حمدالله زيان أو د. مصطفى فودة وكأنك تستمع إلى نُسّاك وقديسين فى محبة الخيرات التى وهبها لنا الله.. وحدنا.. ونحن نجهلها ولا نعرف قيمتها، حتى إن أحدهم يقول لك بالفم المليان: ١١ منجما للذهب توجد هنا.. أشهرها منجم السكرى».. لكن الطيور والحيوانات والكائنات البحرية النادرة التى تمتلئ بها محمية وادى الجمال أهم وأعظم من كل ذلك الذهب.
هم لا يبالغون.. فلو علمت أن ما يقرب من ٥٠٠ ألف سائح ينزل إلى مرسى علم سنويًا ليستمتع ببحر لا مثيل له فى العالم.. وبشر كأنهم ولدوا بالأمس.. هم قطعة من المحمية ذاتها.. ولو بحسبة الفلوس.. شوف النص مليون سائح دول ممكن يدفعوا كام فى السنة!.
استلبتنى تمامًا شجرة «بلح السكر» هكذا يسميها أهلنا فى المحمية لكن علماء البيئة يسمونها «الهجليج».. ولها اسم علمى، هى مجرد شجرة تطرح ثمرة مثل «النبق» لها طعم مر.. لكنها تعالج تقلبات مرض السكر.. وعلى الفور أسأل: هل هناك ما يمنع زراعتها فى أرض الوادى؟.. والإجابة من علمائنا: لا يوجد ما يمنع. الأهم أن نحافظ عليها من الانقراض.. مثلها مثل شجرة «المنجروف» وهى شجرة تنبت فى البحر. شاهدنا شجرة فى نص البحر عمرها ٢٠٠ سنة تعيش فى البحر فقط وتؤدى وظيفة خرافية، حيث تحمى «الشعاب المرجانية وتحمى باط البحر» من النحر، كما أنها غذاء ربانى لعشرات من الكائنات البحرية.
فى قرية القلعان جلسنا نشرب قهوة «الجبنة» التى يصنعها السكان المحليون الذين قامت وزارة البيئة بدعمهم فى سياق مشروع مهم لرعاية السكان المحليين الذين هم جزء أصيل من المحمية.. فيما نتلقى صفعات متتالية من علمائنا الأفاضل حول المؤتمر القادم للتنوع البيولوجى، الذى سينعقد فى شرم الشيخ تحت رعاية الرئيس عبدالفتاح السيسى وبمشاركة وفود ١٩٦ دولة.. وهو مؤتمر تعقده الأمم المتحدة كل عامين وحصلت مصر على تنظيمه هذا العام بعد سباق تفاوضى قاتل مع الأتراك حُسم لصالحنا.. ذلك المؤتمر الذى يحتاج منا إلى دعم غير مسبوق- بمعرفة ما سيناقشه أولًا- ومعرفة أهمية ذلك ومعرفة كنوزنا التى يجب أن نحافظ عليها.
لقد اكتشفنا فى أحد الحوارات مع علمائنا الأفاضل أن القطن المصرى طويل التيلة لم يعد مصريًا بعد أن سجلته أمريكا.. وعرفنا وهذا أمر يحتاج لمناقشات طويلة أن هناك مافيا لتدمير البذور الأصلية لمئات الأنواع من البذور لمئات الأنواع من الزراعات التى نعتمد عليها فى غذائنا.. وعرفنا أن الشركات التى تعمل فى تصدير وتسويق البذور المهندسة وراثيًا اخترعت ما يسمى بالجين القاتل، لتحمى اختراعاتها وتضمن أن نظل عبيدًا لما تنتجه.
باختصار هذا المؤتمر فرصة عظيمة لنعرف قدراتنا ومواردنا التى حبتنا بها طبيعة لم يمنحها الخالق لسوانا.. وعلينا فى سياق ذلك أن نعد من التشريعات ما يضمن لنا حماية هذه الموارد، وفى مقدمة هذه التشريعات قانون السلامة الإحيائية الذى يقبع فى أدراج مجلس النواب منذ عشر سنوات لأسباب غير مفهومة.. وفى هذا السياق الشرح يطول.. وسنفعل ذلك فى الأيام القادمة مع السادة المتخصصين من علماء ونواب وجمعية كتاب البيئة.
وقبل هذا كله.. علينا أن نحافظ على هؤلاء الشباب من علماء مصر.. أولئك الذين يعملون فى الجبال لحماية تراثنا ومستقبلنا، فهم الأمل الذى يقدر أن يهزم ذلك الألم الذى فاجأنا مع سيول التجمع والقاهرة الجديدة.