رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عندما يكون البطريرك صاحب رؤية وطنية


فى ذكرى نياحة قداسة البابا شنودة الثالث التى نعيشها هذا الأسبوع، يذهب المئات لزيارة موقع مرقده الأخير للتبرك وطلب الشفاعة، وتقول الأخبار وتحكى عشرات الحكايات التى تحملها أوراق وضعها الزوار على القبر حمّلوها همومهم وآمالهم وأحلامهم.
فتاة تطلب من البابا فى رسالة أن يشفع لها أمام الله، ويحقق ما بها من طلبات، وبعد سفر ساعات طويلة جاء شريف جرجس من الأقصر، قاصدًا مزار البابا شنودة، ليكتب له رسالة عاجلة يشكو فيها من ضيقه وهمومه التى تنوء بها الجبال من وجهة نظره، وبالرغم من أنه ينتمى للطائفة الإنجيلية التى لا تؤمن بشفاعة القديسين، أى وساطة البشر الصالحين بعد موتهم لله «هكذا حكى شريف للصحفى»، لكن الحاجة والضيق والمشاعر الإيمانية قد تتجاوز مثل تلك الأمور، وأمام قبر البابا بكى شريف وسلم رسالته للبابا فوق قبره، وطلب من الراهب المسئول عن الحراسة الصلاة من أجله والجلوس معه. وأمام مدخل المزار أتى سمير مرقص من المنيا على كرسى متحرك مُصغيًا لقصص معجزات قبر البابا شنودة الثالث التى يحكيها الرهبان، وعاد الأمل مرة أخرى له أن يودع كرسيه ويسير، خصوصًا بعد أن قصّ أحد الرهبان معجزة حدثت أمام القبر، كلمات الراهب عن المعجزة شجعت سمير ليحرك كرسيه متجهًا للقبر، وصلى بحرارة وكتب رسالة للبابا شنودة شاكيًا له عذابه، ليترك الدير وحلمه فى رسالة وضعها على قبر البابا. وقال أحد الرهبان المسئولين عن حراسة المزار إن كل يوم يتم تجميع قصاقيص الورق والرسائل التى يتركونها على قبر البابا شنودة ويتم حرقها ولا يقرأها أحد احترامًا لخصوصية الآخرين، مؤكدًا أن الطقس الكنسى يرفض كتابة أوراق ورسائل ووضعها على قبور القديسين، وكان ينبغى أن يكتفى الزوار بالصلاة أمام القبر.
حول الدور الروحى والوطنى للكنيسة المصرية خارج الوطن فى عهد قداسته، يمكن التأكيد على حقيقة أنه ومع جلوس البابا شنودة على الكرسى المرقسى عام ١٩٧١، تجاوزت أهداف العمل الكنسى مجرد الخدمة الرعوية للجاليات القبطية فى الخارج. ففى عام ١٩٧٦ استحدثت الكنيسة القبطية أسقفية للشئون الإفريقية، وفى ١٩٧٩ توجه البابا إلى كينيا وزائير لافتتاح كنائس قبطية فى البلدين، وهو الأمر الذى تبعه تأسيس كنائس ومراكز طبية ومؤسسات للخدمة الاجتماعية تابعة لكرسى الإسكندرية فى تنزانيا ونيجيريا وكينيا وغانا وساحل العاج وزامبيا وجنوب إفريقيا وزيمبابوى والسودان، بالإضافة إلى قوافل طبية دورية فى العديد من دول القارة. لكن طموح البابا شنودة لم ينحصر فى إفريقيا ودول المهجر. ففى عام ٢٠٠٦، زار البابا شنودة، البرازيل وبوليفيا، ليضع حجر الأساس لأول كنيستين قبطيتين فى أمريكا الجنوبية، لتنضما إلى كنائس الكرسى المرقسى التى كانت قد تأسست فى آسيا، فى كوريا وهونج كونج وباكستان وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا وتايلاند.
ويذكر لقداسته دوره التنويرى والإصلاحى الذى مارسه مبكرًا فى شبابه عبر مقالاته بمجلة «مدارس الأحد»، وحتى وهو العلمانى «نظير جيد» والتى كانت من أسباب نجاح ذلك الإصدار، بل ونجاح مشروع «مدارس الأحد» الذى تحتفل بمئويته الكنيسة القبطية هذا العام.
لقد كتب «طه حسين» مقالًا رائعًا لمجلة «مدارس الأحد» بعددها الصادر فى مايو ١٩٤٨ محييًا ومقدرًا دور الكنيسة القبطية ورؤاه لتطوير تلك المؤسسة الوطنية بكل شفافية وموضوعية علمية، من بين ما جاء بالمقال «الكنيسة القبطية مجد مصرى قديم ومقوم من مقومات الوطن المصرى، فلا بد من أن يكون مجدها الحديث ملائمًا لمجدها القديم، ولا ينبغى أن نخلّى بين رجالها وهذه المحافظة الخاطئة التى تغض من هذا المجد وتضع من قدره.. وعليه، الدولة المصرية والكنيسة القبطية يجب أن تتعاونا على إصلاح التعليم الدينى المسيحى، وتنظيم المعاهد التى تخرج القسيسين والرهبان والملاءمة بين هذه المعاهد الدينية الخالصة ومعاهد التعليم المدنى، بحيث تفتح لطلاب المعاهد الدينية المسيحية أبواب الحياة المدنية، إن أرادوا أن ينهضوا بأعبائها».. واليوم، وقد تحقق الحلم الجميل لعميد الأدب العربى، تجنى الكنيسة حصاد مشوار طويل تحت رعاية بابوية مستنيرة لعدد من بطاركتها، وفى الصدارة الجهد الرائع لقداسة البابا شنودة الثالث فى مجال رفع كفاءة وثقافة وعلم الكهنة والرهبان والشمامسة، وبات الأمر مفرحًا أن نتابع حصول العديد منهم على رسائل علمية دينية وتاريخية مرجعية مهمة.. لقد وقع فى يدىّ بالمصادفة رسالة دكتوراه رائعة بعنوان «تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بدولة النمسا والآثار الروحية والاجتماعية (١٩٥٣م - ٢٠١٥م).. والمقدمة للكلية الإكليريكية بالقاهرة للحصول على درجة دكتوراه الفلسفة فى التاريخ الكنسى القبطى من قبل الباحث القمص إبراهيم إبراهيم حنا، كاهن كنيسة مار مرقس بفيينا بالنمسا، والرسالة فى موضوعها وتوقيت العمل بها ونشرها، تشير إلى عدد من النتائج والمؤشرات المهمة التى جعلتنى أقبل على قراءة محتواها فى ليلة واحدة.
الكاهن الباحث يدرك مدى المسئولية الاجتماعية والثقافية والروحية الملقاة على عاتقه ككاهن قبطى مصرى فى بلاد الغربة، فيذهب إلى البحث والدراسة للتعرف على تاريخ البلد المبعوث إليه، للتعامل مع مواطنيه من أبناء جلدته بعد حملهم جنسية ذلك البلد.. تعد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بدولة النمسا من أوائل الكنائس التى تأسست بقارة أوروبا، بعد تأسيس الكنيسة بدول إنجلترا وألمانيا وفرنسا.
حاول الدكتور الكاهن بكل جدية الإجابة عن الأسئلة التالية: ماذا عن تاريخ دولة النمسا التى ذهب إليها أقباط مصر عبر الحقب الأخيرة؟ ماذا عن رؤية الرحالة القادمين من النمسا عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية؟ ما رؤية رجال الدين والمفكرين النمساويين عن الأقباط المسيحيين؟.. ماذا عن بداية التواجد والتجمعات القبطية بدولة النمسا؟ ما علاقة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بدولة النمسا؟ ماذا عن تأسيس الكنيسة القبطية بالنمسا؟
وماذا عن الدور الرعوى والتعليمى للكنيسة بالنمسا؟ ماذا عن الدور الرعوى الثقافى والاجتماعى للكنيسة بالنمسا؟ ماذا عن دور الكنيسة القبطية الأرثوذكسية مسكونيًا بالكنائس المسيحية الأخرى بدولة النمسا وكذلك علاقتها بالدولة النمساوية؟.. وللمقال تتمة فى عدد قادم بإذن الله.