رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سوريا بين فكّى الكمّاشة وغصن الزيتون


منذ ٥٠٠ عام كان الجيش العثمانى الموجود فى مناطق عفرين السورية، يأكل وجبة شعبية يطلق عليها «محاشى إسكليب»، وبعد يومين من انطلاق العملية العسكرية فى عفرين، أقامت فرقة الموسيقى العثمانية التابعة للبلدية «هاثاى» حفلا موسيقيا فى مدينة ريحانى لرفع معنويات الجنود الأتراك المشاركين فى حملة تركيا ضد شمال سوريا.
ومع نغمات الموسيقى العثمانية، وتحت راية تحمل الشعار العثمانى المرفوعة فى مدينة «كيليس»، تناول جنود أردوغان اليوم للمرة الأولى بعد ٥٠٠ عام «محاشى إسكليب» فى محاولة لاستعادة الأراضى التركية التى يقول عنها دولت بهشلى، رئيس حزب الحركة القومية التركى، إنها كانت تابعة لتركيا، ونقلها ترسيم الحدود إلى سوريا ولكن تركيا قد تستعيدها لو صمم النظام على دعم الأكراد.
ومن غوطة دمشق، حيث يطبق الجيش العربى السورى خطة «فكّى الكماشة» إلى عفرين، حيث تنطلق حملة عسكرية تركية تحت شعار «غصن الزيتون»، تعيش سوريا معركة قدرية فى قمة المأساة الإنسانية. فمن كان يصدق أن غوطة دمشق بحدائقها الغنّاء وعفرين بجبالها الخضراء، سوف تتحول إلى مناطق دمار شامل يموت فيها الرضيع أمام والديه، فلا يجدان له حليبًا وتموت الابنة بين يدى أبيها لا يستطيع دفع الخطر عنها ولو للحظة.. هكذا يبدو الحال سوداويًا فى سوريا التى شهدت أكبر مسرح لتجربة أخطر الأسلحة فى العالم بدءًا من البراميل المتفجرة إلى استخدام الكيماوى عن طريق من؟ لا نعرف الحقيقة الكاملة حتى الآن.. سوريا التى تشهد بالفعل منذ سبع سنوات ربما أسوأ سنوات تاريخها، باعها بعض أبنائها إلى شيوخ خليجيين وجنود من غرب الدنيا وشرقها لتتحول حدائقها إلى معسكرات للإرهاب، وتتحول آثارها وخزائنها إلى مسروقات تضاف إلى خزائن الغرب الذى لا يكتفى بسرقة البترول ولكنه يخطط لسرقة الوطن كله.
منذ سبع سنوات انطلقت مظاهرات فى درعا دعمًا لما سمى الربيع العربى، وانطلق الشباب من درعا جنوبًا إلى عفرين شمالًا، مرورًا بإدلب والغوطة وحلب لتصل إلى دمشق، وشيئًا فشيئًا تدخل كتائب داعش لتعلن الرقة عاصمة الخلافة الإسلامية بعد أن سيطر عليها تنظيم داعش الذى أطلق على نفسه اسم تنظيم الدولة الإسلامية، وتولى رجال التنظيم إقامة الحياة الشرعية فى مخيلتهم فى دير الزور والرقة وحلب القديمة.. وفى المقابل يحاول الجيش السورى التماسك لسنوات طالت استعاد فيها بعضًا من قوته وامتص صدمة الانقسام الذى أحدثه مؤسسو جيش سوريا الحر.. مرت الأزمة السورية بمراحل متعددة ما بين صراع بدأ داخليًا بين كتائب انفصلت عن الجيش السورى مدعومة بفصائل مسلحة تسليحًا خفيفًا، ثم معارك عنيفة استطاع بعدها تنظيم داعش، السيطرة على حوالى نصف البلاد وباتت الحدود السورية التركية والسورية العراقية، تحت سيطرة التنظيم الذى أصدر عملته الرسمية وتعامل كدولة تملك حق إصدار جوازات السفر والهوية، وأقام أقسام الشرطة وطبّق الحدود الشرعية من وجهة نظره، وبيعت نساء فى سوريا كسبايا مثلهن فى ذلك مثل ما حدث مع الإيزيديات فى العراق، وقاموا بتدمير المتاحف فى تدمر وغيرها.. ولم يقتصر الحال على داعش، بل ظهر تنظيم جبهة النصرة وغيره ليصل عدد الفصائل لأكثر من مائة فصيل مسلح، منها ما يستولى على قرية ومنها ما يستولى على إقليم.. تمزقت سوريا وكاد النظام السورى يسقط لولا تدخل روسى ودعم إيرانى، ووجود لحزب الله على الأرض. ساعد الحلفاء بشار على الصمود ومعه أكثر من ثلثى الجيش السورى الأصلى، لتبدأ بعد ذلك سلسلة من معارك استرداد الأرض من الفصائل وداعش، ومع العامين الأخيرين استطاع الجيش العربى السورى أن يحقق انتصارات متتالية لتبدأ القرى فى العودة لسيطرته، وتبدأ معركة حلب والتى شهدت مراحل فى قمة العنف، ودمرت أغلب أبنية حلب القديمة وتحولت الأقبية كما فى الغوطة حاليًا إلى ملاجئ للسكان، ومرت معركة تحرير حلب بخطط مختلفة ما بين المعارك الجوية اليومية وبين قصف للمدفعية بشكل دائم، وانطلاق حملات دعائية مولها إخوان سوريا والموالون للتنظيمات المسلحة تحت شعار «حلب تحترق»، ونشروا الصور والفيديوهات لقتلى حلب ونسبوا للجيش العربى الكثير وبدعم عسكرى روسى وصمود لوحدات الجيش السورى استطاعت قوات الجيش السورى استرداد حلب ومحيطها وأغلب ريفها ومع عودة حلب، سقطت عاصمة الخلافة المزعومة فى الرقة وتواصل سقوط التنظيم الإرهابى فى العراق وسوريا، لتعود مرة ثانية الحدود السورية العراقية تحت سيطرة القوات العراقية والسورية، وفى الشمال كان الأكراد يحققون انتصارات أخرى أقلقت تركيا وبدعم أمريكى كادت تنشأ دولة كردية تتمتع بحكم ذاتى، وكان لا بد لأردوغان أن يتدخل لأسباب عدة أنه يواجه لأول مرة قوات كردية مدعومة بوحدات من الجيش السورى يطلق عليها القوات الشعبية، وسلمت قوات وحدات حماية الشعب الكردية مناطق فى عفرين لوحدات من الجيش السورى وبدعم أمريكى وروسى يواجه الأكراد اليوم أردوغان فى معركة مصيرية للطرفين، فالأكراد لن يتركوا الأتراك يعودون إلى شمال البلاد، بعد أن حققوا الانتصار على داعش وطردوهم، ولن يسمحوا بانهيار الحكم الكردى، والأتراك يعيشون هاجس الخوف من وجود كردى فى شمال سوريا يمهد لقلاقل فى الجنوب التركى.. مع وجود روسيا التى تحاول أن تضمن مكانًا فى الشمال السورى، كما تم فى أغلب البلاد والولايات المتحدة لا تريد أن تخرج خالية الوفاض من الصراع فى سوريا، فتبنى عشرين قاعدة فى الشمال السورى، بينما تقبع القوات العسكرية الروسية فى حميميم واللاذقية وطرطوس.
الوضع العسكرى فى سوريا أكثر تعقيدا من الوضع السياسى، ففى الشمال اتفق أعداء الأمس الأكراد والجيش السورى على التناغم بينهما، فالقوات السورية تسمح للوحدات الكردية بالمرور من مناطق تخضع لها دعمًا لوحدات أخرى فى المعركة، ووحدات حماية الشعب الكردية تسلم قرى مثل كفر حيفة وقرى أخرى للقوات السورية لتتواجد القوات السورية فى عدة أماكن بغرب عفرين، ولتتقدم فى راجو على قمة الجبل وباتجاه سهل باليا، وتتبع هذه المنطقة حوالى ٤٥ قرية و٢٠ مزرعة بالإضافة إلى ناحية صلة الوصل أو شيخ الحديد وتضم ١٨ قرية، وهى على الحدود التركية وبذلك أمّنت الفصائل الموالية للجيش السورى الطريق الواصل بين راجو فى الشمال وجندريس فى الجنوب الغربى، فى حين يسيطر الجيش التركى على ١٣٦ نقطة منها «بولشك» و«اليجى» التابعتان لبلدة شران.
فى المقابل تبدو بعض الدلالات الخطرة منها تخفيف الضغط على بقايا داعش بعد سحب أكثر من ١٧٠٠ مقاتل من الخطوط الأمامية فى الرقة ودير الزور والحسكة للتوجه إلى عفرين للقتال ضد تركيا.. هذا التحرك يعطى لعناصر داعش قُبلة الحياة فى هذه المناطق بعد أن كاد تحريرها كاملًا يتم، مما يؤكد أن هناك تنسيقًا بين جبهة النصرة والمخابرات التركية.
ما يحدث فى عفرين ألقى بظلاله على ما يحدث ليس فى الرقة وحدها ولكن أيضًا على الأوضاع فى إدلب ومناطق من ريف حلب، فقد استردت هيئة تحرير الشام «بقيادة جبهة النصرة» مناطق خسرتها من جبهة تحرير سوريا التى تقودها حركة أحرار الشام ذات النفوذ الواسع، وجماعة نور الدين الزنكى قرب المنطقة الاستراتيجية على حدود تركيا، وتحاول حركة أحرار الشام حاليًا شن هجمات مضادة لاستعادة قرية لدسين قرب الحدود وتقدمت فى مناطق أخرى منها معرة مصرينى.
السيناريو العسكرى يشتبك فى شمال سوريا فى مناطق لصالح الهجمة التركية وفى أماكن أخرى، لصالح الفصائل المؤيدة للجيش السورى مدعومة بوحدات حماية الشعب الكردية.
ورغم ما يحدث فى الشمال بعفرين، فإن الجيش السورى يواصل تقدمه فى غوطة دمشق، وهى منطقة حماية بالنسبة له من خلالها يتم تأمين العاصمة السورية من الهجمات اليومية الصاروخية التى تشن عليها.
ورغم تشتت الجيش السورى فى معارك متعددة، إلا أنه استطاع السيطرة على ثلثى منطقة الغوطة فى معركة وبخطط تشبه إلى حد كبير سيناريو معارك حلب بعد سيطرة جوية ودك بالمدفعية، تمكنت القوات البرية من السيطرة على الشيفونية والنشابية وحزرما، وهى مناطق مهمة بالقرب من حرستا ودوما، كما سيطر على عدد من المزارع شرق بلدة الريحان وكذا بلدة المحمدية فى الغوطة الشرقية.. وبنفس التكنيك السابق فى حلب تلقى المروحيات يوميًا فى حلب منشورات لحث المدنيين على المغادرة بدلا من أن تتخذهم الفصائل دروعًا بشرية، وفى حين تفتح القوات السورية ممرات آمنة لخروج السكان وأيضًا المسلحين وأسرهم يرفض المسلحون ذلك على أمل الصمود الذى أوشك على الانهيار، وبعد ثمانى مراحل للهدنة الإنسانية فشلت قوافل المساعدات الإنسانية فى الوصول إلى قلب الغوطة وأكثر مناطقها تضررًا.
الوضع السورى المتشابك والمربك لأى حسابات، جعل الأمل فى حل سريع للأزمة السورية يتلاشى، وإن كان الخيار العسكرى ليس هو الحاسم، فإن الخيار السياسى لن يستطيع الحسم ولا بد من تدخل دولى يحسم المعركة على الأرض، ويتيح الفرصة للدولة السورية، ولكن الأطماع التركية والدعم القطرى للفصائل والتواجد الإيرانى والروسى والأمريكى والتهديد بالتدخل الفرنسى والبريطانى والإسرائيلى، كل ذلك لن يسمح بهدوء قريب فى سوريا.. كل ما نملكه هو الدعاء لهذا الشعب العربى العريق أن يتخطى المحنة وأن يعود الملايين من أبنائه اللاجئين والمشردين إلى منازلهم لعلهم يستطيعون تضميد جراح الباقين أو زيارة قبور الشهداء.
سوريا الشقيقة ستظل تعانى لسنين طوال، ولكن الشعب السورى الذى صمد كثيرًا عبر التاريخ يستطيع عبور المحنة، وربما يمتد بنا العمر لنرى غوطة دمشق وقد مسحت الدماء من على أوراق أشجارها وتعود مرة أخرى إلى حدائقها.