رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإبداع ومواسم الخداع


السرقة الأدبية والفنية عامة، قديمة فى تراثنا الأدبى، وقد أشار إليها القاضى الجرجانى فى أواخر القرن العاشر الميلادى بقوله إنها: «داء قديم وعيب عتيق وما زال الشاعر يستعين بخاطر الآخر ويستمد منه قريحته ويعتمد على معناه ولفظه».
وما زال ذلك الداء القديم ساريًا يظهر فى أيامنا فى أشكال السطو الصريح على أعمال الغير، كما فى حال الشاعر هشام الجخ الذى حكمت عليه المحكمة بغرامة خمسين ألف جنيه، لاستيلائه على ٣٥ مربعًا شعريًا من ديوان «الواو» تأليف عبدالستار سليم، وأيضًا فى حال الموسيقار عمار الشريعى الذى أدانته لجنة تحكيم فنية بتهمة سرقة موسيقى مسلسل رأفت الهجان.
وطالت الاتهامات يوسف زيدان بسرقة روايته «عزازيل» من رواية «أعداء جدد بوجه قديم» التى كتبها تشارلز كينجسلى فى القرن ١٩. أما فى مجال السينما فحدث ولا حرج. والحق أننى طوال عمرى كنت أرى فى اللصوص الذين ينقضون جهارًا نهارًا على أملاك وأعمال الغير، درجة من الشجاعة والمغامرة لا تتوافر للكثيرين، وربما لهذا السبب احتفى الأدب الشعبى بنموذج اللص الشجاع، أما فى الأدب المكتوب فقد رسم نجيب محفوظ نموذجًا لهم فى شخصية «سعيد مهران» بطل رواية اللص والكلاب التى نشرها محفوظ عام ١٩٧٣. وقد رأت المستشرقة الروسية الكبيرة فاليريا كيربتشنكو فى نموذج سعيد مهران «تمردًا جديرًا بالإجلال وإن ضل الطريق». بالقدر ذاته فإننى أبغض مختلف أشكال الاحتيال والخداع فى الأدب والفن، لأنه تجسيد لنفسية مراوغة وهابطة. ولقد تفشت فى حياتنا الثقافية مختلف أشكال الخداع فى الإبداع تحت مسميات ومصطلحات ولغويات مختلفة.
على سبيل المثال حدث أن قدمت فرقة مسرح الشباب مسرحية شكسبير «يوليوس قيصر» التى ترجمها د. محمد عنانى، وجاء فى إعلانات العرض: «يوليوس قيصر. دراماتورج سيد الإمام. أشعار مصطفى على»!، ومن ذلك الإعلان عرفت لأول مرة أنه إذا اجتمع الشاعران شكسبير ومصطفى على، فإن اسم مصطفى على هو الذى يكتب فى الإعلانات، وأن على شكسبير أحد أعظم شعراء الإنسانية أن يمزق أوراقه إذا حضر مصطفى، وعليه أيضًا أن ينكسر محزونًا مهزومًا بفنه الدرامى فى مواجهة «الدراماتورج» سيد إمام. مع ذلك القصة ليست فى الإعلان، القصة هى: ما الذى أضافه الاثنان ليوليوس قيصر؟، وهل يحق لأحد أصلًا أن يعبث بالتراث المسرحى الإنسانى؟، وهل عاش شكسبير خمسة قرون فى انتظار إضافة؟. كلا بالطبع. المسألة أن البعض يمارس الخداع ويوحى بأنه قام بدور ليته لم يقم به!، لكن كلمتى «دراماتورج»، و«أشعار» خادعتان وبراقتان، وتمنحان دورًا لمن لا دور له سوى التعيّش على حساب الأعمال الكبيرة. كان هناك أيضًا عرض مسرحى آخر باسم «فيفا ماما» تم إعداده عن ثلاثة كتب: كتاب د. سيد عويس «التاريخ الذى أحمله على ظهرى»، ومجموعة صبرى موسى القصصية «السيدة التى والرجل الذى»، ثم رواية بهيجة حسين «حكايات عادية»، وقد تم كل ذلك تحت إشراف مخرجة قدمت نفسها بصفتها صاحبة «فكرة وحدوتة النص»!. مرة أخرى أسأل: ما الذى يعنيه ذلك المصطلح «صاحبة فكرة وحدوتة النص»؟، ومن هو المؤلف هنا: د. سيد عويس؟، أم صبرى موسى؟، أم بهيجة حسين؟، أم المخرجة؟، أم ما سمته «ورشة التأليف الجماعى»؟، ما من إجابة إلا أن ظاهرة خلط الأوراق ولعبة الثلاثة كتب وخلطها تسمح لشخص عديم الموهبة بالزج باسمه مؤلفًا!.
الآن تأمل مصطلحًا أكثر أناقة ورواجًا وهو: «رؤية»، منذ عدة أعوام عرضت مسرحية توفيق الحكيم «السلطان الحائر» مصحوبة بإعلان عن أن المخرج يقدم العمل «برؤية عصرية»!، يا سلام على الجمال!، فما الذى فعله صاحب «الرؤية»؟، أدخل الموبايلات والفيسبوك وغير ذلك على نص توفيق الحكيم، فلا هو ألف نصًا، لأنه عاجز عن التأليف، ولا ترك عبقرية الحكيم فى حالها! لكنه بمصطلح «رؤية» وضع نفسه فى موضع ممتاز كأنه مفكر أو مبدع يقترن اسمه باسم توفيق الحكيم، وإذا كان شخص ما مصابًا بحساسية أو كرشة نفس أو مصابًا برؤية، فلماذا لا يؤلف بنفسه مباشرة ويرحم نصوص الآخرين؟، لكنها أشكال الخداع.
«الرؤية» تمتد أيضًا إلى مجال الموسيقى. وقد حضرت حفلًا قدم ألحان عبقرى الموسيقى العربية محمد عبدالوهاب، وتضمن الإعلان بالبنط العريض «رؤية موسيقية فلان الفلانى»، فإن كانت لدى فلان ذلك قدرة، أى قدرة على الإبداع، فلماذا لا يؤلف بنفسه؟، ويترك الفن فى حاله؟، وما الذى تعنيه «رؤية» هنا؟، هل غير اللحن؟، كلا، هل ألفه؟، كلا، أضاف إليه طبلة هنا وصاجات هناك، واعتبر أن تلك التفاهة «رؤية»، والمهم أن يضع نفسه فى موضع المبدع وخلاص. فى اعتقادى أن السرقة والسطو الفنى الصريح كما فى حالة هشام الجخ أو غيره أفضل بكثير من الخداع فى الإبداع، وعلى الأقل فإن السرقة الفنية تقدم البضاعة المسروقة كما هى، ولا تشوّهها برؤية أو خلافه، أما ألوان الخداع المختلفة التى لا يقدم عليها إلا عديمو الموهبة فإنها بالغة الخطورة، لأنها تشوه كل شىء، وهو أمر يستلزم صحوة من المجلات الثقافية لمكافحة تلك الظاهرة التى جعلت شكسبير يقف تلميذًا متواضعًا مطأطئ الرأس فى حضور مصطفى!.