رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالناصر والديمقراطية «1-2»


نشأت فى بيت من بيوت الطبقة الوسطى، هذه الطبقة التى تحرص دائمًا على تزيين جدران المنزل بصور العائلة، حفظًا للذكريات، فلهذه الطبقة ولعٌ شديد بالتاريخ. لكنى لاحظت أن صورتين من هذه الصور لا أعرف من هما، فهما لا ينتميان إلى عائلتى. ودفعنى فضول الطفل إلى سؤال والدى لأعرفهما. فكان رد والدى: الصورة الأولى للزعيم جمال عبدالناصر، أما الثانية فهى لصالح سليم كابتن الأهلى وكابتن مصر. كان والدى أهلاويًا متعصبًا للنادى الأهلى يحزن لهزيمته، ونادرًا ما يُهزم الأهلى، وناصريًا حتى النخاع عضوًا فى الاتحاد الاشتراكى وعضوًا فى التنظيم الطليعى أيضًا. وخرج أبى مع من خرج فى ٩ و١٠ يونيو رفضًا للهزيمة، وبكى مع جموع المصريين يوم ٢٨ سبتمبر مع وفاة عبدالناصر. هكذا نشأت فى أسرة ناصرية، وتربيت على حب عبدالناصر.
لكن دراستى للتاريخ بعد ذلك، جعلتنى أبتعد قليلًا عن الناصرية وأميل أكثر لليبرالية. وكان السر وراء ذلك هو إخفاق التجربة الناصرية فى تطبيق أحد أهم مبادئ ثورة يوليو وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة.
ومع ثورتى ٢٥ يناير و٣٠ يونيو اللتين رفعت فيهما صور زعماء مصر إلا صورة عبدالناصر، وجدتنى أعيد قراءة تاريخ عبدالناصر والتجربة الناصرية على ضوء الحاضر. وكان علىّ أن أعالج المسألة التى باعدت بينى وبين التجربة الناصرية، وهى غياب الديمقراطية.
سيعانى ناصر فى بداية حكمه من ضعف شعبيته، واستمرار شبح محمد نجيب يُخيِّم على أجواء السياسة المصرية حتى بعد تنحيته، وستشهد الفترة التالية الكثير من الصدام بين ناصر والقوى السياسية المختلفة وأبرزها الإخوان؛ فضلًا عن تخوف ناصر الدائم من حدوث انقلاب عسكرى ضده، فهو لم ينس بعد أنه جاء من خلال انقلاب عسكرى، وأن هذا ربما يُعطى مشروعية لأى ضابط آخر للانقلاب عليه. من هنا سيحرص ناصر دائمًا على تحويل هذا الانقلاب إلى ثورة اجتماعية واقتصادية، لكن هذا الخوف المزمن سيؤدى كما سنرى بعد ذلك إلى علاقة غريبة وصدام خفى بين ناصر وعبدالحكيم عامر.
وسيبدأ عبدالناصر أولى خطوات تأكيد شعبيته، من خلال تعويض إيقاف الثورة للتطور الليبرالى الذى شهدته مصر قبل ١٩٥٢، رغم تحفظنا على هذا التطور، بإنشاء الاتحاد القومى فى يناير ١٩٥٦ فى محاولة لعلاج قرار الثورة بحل الأحزاب السياسية فى عام ١٩٥٣، هذا الاتحاد الذى سيتحول بعد ذلك فى عام ١٩٦٢ إلى الاتحاد الاشتراكى العربى. هكذا تخلت جمهورية ناصر عن التراث الليبرالى القديم بكل مزاياه وعيوبه، ولجأت إلى نظام الحزب الواحد الذى يرى البعض أنه يتماشى مع الفكر الثورى والحركات الوطنية آنذاك، من خلال مفهوم تحالف قوى الشعب العامل، لكن هذه النقطة بالذات والتى كانت أحد أهم مبادئ ثورة يوليو، ونقصد إقامة حياة ديمقراطية سليمة، سوف تصبح أهم نقاط ضعف جمهورية عبدالناصر، وأيضًا أهم الانتقادات التى وجهها إليه معارضوه، والتى سببت له إحراجًا كبيرًا من حيث تخليه عن مبدأ من مبادئ ثورة يوليو.
نستشعر ذلك منذ الصراع الشهير بين نجيب وفريقه مع عبدالناصر، إذ تم تصوير هذا الصراع على أنه صراع على الديمقراطية؛ نجيب وخالد محيى الدين وغيرهما يدعون إلى الديمقراطية وعودة الجيش إلى ثكناته، وعبدالناصر وفريقه يدعون إلى النقيض. لذلك حرص عبدالناصر سريعًا وفى عام ١٩٥٦، على إجراء استفتاء على رئاسته للجمهورية وعلى طرح دستور جديد فى نفس الوقت. وجاءت نتيجة الاستفتاء بأغلبية ٩٩.٩٪، هذا الرقم الذى سيُشكِّل بعد ذلك أكبر عيوب النظام الجمهورى المصرى وسيستغله البعض ضد عبدالناصر كدليل على غياب الديمقراطية فى ذلك العصر.
ولم تستقر شعبية عبدالناصر ولا النظام الجمهورى فى مصر إلا بعد حرب ١٩٥٦، فقد استطاع عبدالناصر والدبلوماسية المصرية، تحويل الخسائر العسكرية إلى نصر سياسى، كما ساعد العدوان الثلاثى، على ازدياد شعبية ناصر ليس فقط فى مصر، ولكن فى شتى أنحاء العالم العربى، حيث تحوَّل عبدالناصر إلى أيقونة العرب بل وحركات التحرر الوطنى فى العالم. هكذا بدأ الاستقرار النسبى يدبّ فى أوصال الجمهورية المصرية.
لكن ستبقى الديمقراطية هى نقطة ضعف عبدالناصر التى يستغلها ضده حتى أقرب أصدقائه؛ ففى عام ١٩٦٢ وفى ظل أزمة من أزمات الثقة المتبادلة بين عبدالناصر ورفيق دربه عبدالحكيم عامر، ينكأ الأخير هذا الجرح المزمن لدى عبدالناصر، إذ يوجه عامر خطابًا إلى عبدالناصر يطالبه فيه بحرية الصحافة، وضرورة العمل على إرساء قواعد الديمقراطية فى مصر. ترتب على ذلك المزيد من ضعف عبدالناصر أمام عامر، والمزيد من الصلاحيات المطلقة لـ«عامر» فى شتى شئون البلاد. وسيظهر ذلك مرة أخرى حتى بعد هزيمة ١٩٦٧، إذ سيرفع تيار عامر قميص عثمان من جديد، وهو العودة المباشرة للديمقراطية، مما أزعج عبدالناصر بشدة، لأنه يُظهره فى صورة اللاديمقراطى أمام جماهيره.
وفى رأينا لم يكن عبدالناصر فى داخله معاديًا للنظام الديمقراطى، لكنه وفى إطار مفهوم «المستبد العادل»، كان مؤمنًا إيمانًا راسخًا بأن مشروعه الانتقالى هو المشروع الأصلح لتأهيل الجماهير للديمقراطية السليمة.