رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الندابون


أصحاب المنطق الفاسدون الجالسون فى «كهوف التاريخ»

درجت الأمم على إعادة قراءة تاريخها، خاصة عندما تشعر أنها فى مفترق الطرق، وأهم هذه اللحظات فترات الانكسارات وحتى الانتصارات، حيث تعتبر هذه القراءة الجديدة بمثابة «نقد» لا «جلد» للذات، وهناك فارق كبير بين الاثنين.
عملية «نقد» الذات تساعد على تفهم التاريخ، وبالتالى الانتقال إلى العملية الأصعب والأهم وهى تجاوز التاريخ، بينما يصبح «جلد» الذات المسألة الأسهل والأسرع، وهى أشبه بلطم الخدود أثناء المصائب، ما يؤدى إلى حالة من السكينة المؤقتة، لكنها لا تقترب من المصيبة ذاتها، وكيفية تفهمها والتعامل معها، وبالتالى لا تستطيع الشعوب هنا تجاوز تاريخها، بل تعيش فى «كهف» التاريخ.
فى الحالة الأولى تكون إعادة قراءة التاريخ عملية نقد بنَّاء، بينما فى الحالة الثانية- وهى للأسف ما تعيشه الأوساط الثقافية والإعلامية فى مصر الآن- حالة أشبه بما نعرفه فى العامية المصرية بـ«الندب»، وهى حالة لها جذور فى الشعر العربى معروفة بـ«البكاء على الأطلال».
وللأسف تؤدى الحالة السابقة «الندب» إلى رد فعل معاكس وعنيف، نعرفه فى العامية المصرية بـ«الردح»، ويعرف فى الشعر العربى بـ«الهجاء»، وهذا ما نراه الآن تجاه بعض الشخصيات التاريخية البارزة فى تاريخنا.
والعالم كله عرف عملية إعادة قراءة التاريخ، والمصطلح الأكثر شيوعًا لها هو حركة «المراجعة»، ويقصد به مراجعة ما تم تصديره للرأى العام على أنه من الثوابت، ولعل أهم هذه الحركات «مدرسة ما بعد الاستعمار»، وهى التى تعيد قراءة تاريخ العالم، لا سيما تاريخ المستعمرات فى آسيا وإفريقيا برؤية جديدة، تتجاوز المعالجات الاستشراقية والاستعمارية لهذا التاريخ.
وحتى فى إسرائيل، ظهرت حركة «المؤرخين الجدد»، التى تعيد قراءة التاريخ الإسرائيلى، ليس بالخروج على دولة إسرائيل، فالحركة من داخل أطر الدولة، لكن من خلال نقد المؤثرات الصهيونية فى كتابة التاريخ الإسرائيلى.
وقامت مصر نفسها - أكثر من مرة - بحركة مراجعة لتاريخها، ولن نتحدث هنا عن التاريخ البعيد، ولكن عن التاريخ القريب، الذى لا يزال يلقى بظلاله على حاضرنا حتى الآن.
ولعل أهم هذه الحركات ما تم فى مصر بعد هزيمة يونيو ٦٧، إذ طرحت النخبة المصرية على نفسها السؤال التقليدى فى تلك الحالات: «لماذا هُزمنا؟»، وربما ظهرت تجليات ذلك فى الأدب والفن بشكلٍ أوضح، لكن حركة مراجعة التاريخ كانت مهمة أيضًا، نستطيع أن نرى ذلك فى مقدمة أحمد بهاء الدين، لكتابه القديم «إسرائيليات وما بعد العدوان».
وكذلك نراه فى مقدمة محمد حسنين هيكل، للكتاب التذكارى الذى أصدرته «الأهرام» فى عام ١٩٦٩، احتفالًا بمرور خمسين عامًا على ثورة ١٩١٩، وهكذا تحتفل ثورة يوليو بذكرى ثورة ١٩ بعد طول جفاء.
وفى هذا المناخ، أجواء ما بعد الهزيمة، تظهر كتابات لويس عوض وطارق البشرى- فى مرحلته اليسارية- وصلاح عيسى، وينعكس ذلك على الدراسات التاريخية فى الجامعات، إذ يصبح الاقتراب من التاريخ المعاصر أكثر قبولًا، ونشاهد رسائل جامعية حول الأحزاب المصرية، وحتى حزب الوفد، والإخوان المسلمين، والتنظيمات الشيوعية، وتبدأ الرسائل الجامعية فى معالجة تاريخ ثورة يوليو.
وفى مرحلةٍ تالية، تبدأ حركة مراجعة لتاريخ الشخصيات التاريخية، وربما رد الاعتبار لبعضها، ولعل تاريخ محمد على هو الأشهر فى هذا الاتجاه، إذ تربينا جميعًا على النظر إلى هذا التاريخ على أنه تاريخ مغامر ألبانى، تاجر للدخان، استفاد من حركة الشعب فى عام ١٨٠٥ واعتلى الحكم، وأصبح هو «الزارع الوحيد والصانع الوحيد، والتاجر الوحيد».
لكن الدولة المصرية، ذاتها، أعادت الاعتبار إلى تاريخه، ففى إطار صراع الدولة مع الحركات الإسلامية والتطرف والإرهاب، احتفلت مصر كلها فى عام ٢٠٠٥ بمناسبة مرور ٢٠٠ عام على تأسيس الدولة الحديثة فى مصر، أى أن عام وصول محمد على إلى الحكم فى ١٨٠٥ هو البداية.
ومن أمثلة حركة المراجعة تاريخ الخديو إسماعيل، إذ نُظِّر إليه فى فترة من الفترات على أنه الخديو اللاهى العابث، وهو ما نشاهده على سبيل المثال فى الفيلم الشهير «ألمظ وعبده الحامولى».
كما وجهت الكتابات التاريخية النقد الشديد، وربما الاتهامات، إلى «إسماعيل» على أنه أسقط مصر فى الديون الأجنبية، وأضاع قناة السويس، وأنه من الأسباب الرئيسية وراء سقوط مصر فريسة للاحتلال البريطانى!
لكن مؤخرًا، ومع حالة القبح التى عصفت بالمدن المصرية، لا سيما العاصمة القاهرة، التى كانت تضارع باريس، تمت إعادة الاعتبار إلى الخديو إسماعيل ومشروعه فى تحويل مصر إلى قطعة من أوروبا، والقاهرة الخديوية، وحتى المشروع الثقافى فى عهده، بل مشروع استقلال مصر عن الدولة العثمانية.
وتستمر مصر فى حركة مراجعة تاريخها، وتطلق أسماء الشخصيات الكبرى فى تاريخها على محطات المترو، دون أدنى حساسية، كما حدث بالنسبة لسعد زغلول ومحمد نجيب، لنجد تجاور أسماء سعد زغلول مع محمد فريد، ونجيب مع عبدالناصر على خريطة شبكات المترو!!
إن حركة مراجعة التاريخ هى حركة بناءة، تقوم بها الأمم فى اللحظات المفصلية فى تاريخها، وهى أبعد ما تكون عما نشاهده الآن من عمليات «الندب» والبكاء على الأطلال، أو «الردح» والهجاء، وحلقات النميمة وإلقاء السواد على تاريخنا، تتقدم الأمم بإعادة قراءة التاريخ وتجاوزه، لأنه تاريخ، وليس بالعيش فى «كهف التاريخ».