رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سلام لـ«سعدالدين إبراهيم» وموشى ديان


سافر سعدالدين إبراهيم إلى إسرائيل، ليلقى محاضرة لنشر السلام فى تل أبيب بمعهد موشى ديان. وموشى ديان معروف تاريخيًا بالسلام، فقد بدأ مسيرته السلمية بمجزرة المجدل، حين هاجم فى أكتوبر ١٩٤٨ على رأس الكتيبة ٨٩ قرية المجدل وأعطى أوامره بفتح النيران على سكان القرية، فأباد ستًا وثلاثين عائلة بكامل أفرادها من بينهم خمسة وسبعون شيخًا مسنًا، ثم واصل ديان «مسيرته السلمية» عندما تولى قيادة القوات الإسرائيلية التى هاجمت سيناء فى عدوان ١٩٥٦، واستمر سلامه وهو وزير دفاع أثناء عدوان ١٩٦٧ وفى حرب ٧٣ على مصر.
إلى صُناع السلام أولئك ذهب سعدالدين إبراهيم يبشر بالسلام وحلاوته، وبثقافة التعايش وجمالها، أسوة بـ«على سالم» الذى زار إسرائيل عام ١٩٩٤ وأصدر كتابه «رحلة إلى إسرائيل»، والرسام جورج بهجورى الذى زارها فى يوليو ٢٠٠٨ وادعى أنه أراد أن يحارب الحرب بالكاريكاتير والنكتة، فكانت تلك أقوى نكات بهجورى! وإذا كان لـ«موشى ديان» مسيرته السلمية المعروفة، فإن لـ«سعدالدين إبراهيم» مسيرة أخرى سلمية مع ديمقراطية لا تقل شهرة بدأت منذ محاكمته فى أغسطس عام ٢٠٠٠ بتهمة التجسس لصالح أمريكا، ولم ينقذه حينذاك سوى ضغوط واشنطن، لأنه يحمل الجنسية الأمريكية، ولم تنقض سنوات إلا وجرت محاكمة أخرى لـ«سعدالدين» فى مارس ٢٠٠٨ أمام محكمة جنح الخليفة، بتهمة التمويل ومطالبته أمريكا بالضغط على مصر بالربط بين برامج المعونة وإفساح المجال لمنظمات حقوق الإنسان.
ثم يأتى دور سعدالدين، حين قام بوساطة بين الإخوان والأمريكان قال بشأنها إنه قام بدور «الخاطبة» التى لا تحمل ضمانة بالسعادة الزوجية، يقصد أن لكل مجتهد نصيبًا. هذه هى الخلفية التاريخية لـ«سعدالدين» المواطن الأمريكى، الذى حرص كل رجال السفارة الأمريكية على حضور جلسات محاكمته، والذى تظاهر فى واشنطن مطالبًا باستقلال النوبة! هذا هو تاريخ سعدالدين، المحب للسلام، والذى سافر به إلى ذكرى محب آخر للسلام هو موشى ديان.
إنه سلام مشترك- إسرائيلى إسرائيلى- يقوم على دفن قضية فلسطين إلى الأبد وتحويل شعبها إلى لاجئين. يشهد بذلك أن إسرائيل نالت فرصة سلام استمرت أربعين عامًا بعد توقيع كامب ديفيد عام ١٩٧٩، لم تقدم فيها بادرة سلام واحدة، وظلت تماطل وتسوّف عبر المفاوضات وأوسلو، إلى أن انتزعت القدس بيد أمريكية. أهذا هو السلام الذى ذهب سعدالدين ليبشر به؟ أم أنه السلام الذى قامت إسرائيل فى ظله بالمشاركة فى الحرب على العراق وسوريا وليبيا، وساهمت فى تمويل سد النهضة لتحاصر مصر؟.
أهذا هو السلام الذى يبشر به سعدالدين ويدعونا على أساسه، حسب تصريحه للتليفزيون الإسرائيلى، إلى «نبذ الصراعات والحروب وكفانا شهداء وموتى»؟ وكأنما نحن الذين نعتدى، ونحن الذين نغتصب، وننهب الأراضى، ونحرق الأشجار، ونسمم الآبار فى فلسطين! يدعونا سعدالدين بسلامه إلى «نبذ الكراهية».. وماذا ينبغى لنا أن نشعر حينما تدهس المدرعات الإسرائيلية الأطفال الصغار فى قرى فلسطين؟ بالفرح؟ بالسعادة؟ أم أن علينا أن نشعر بالسلام يغمرنا بالكامل؟ وماذا ينبغى لنا أن نشعر حين تكون إسرائيل هى الدولة النووية الوحيدة على حدودنا؟ أينبغى أن نشعر بالطمأنينة والبهجة والسرور؟.
إنه سلام لا يسعى لحل أو تسوية عادلة، بناء على كل المقررات والمواثيق الدولية، إنه سلام لدفن الحق الفلسطينى بأكمله وتوسيع وترسيخ إسرائيل، الدولة الوحيدة فى العالم التى لا تعلن عن حدودها حتى الآن! أما عن ثقافة الكراهية التى يتشدق بها سعدالدين، فالأولى به أن يوجه هذا الحديث لإسرائيل، وأن يقول لهم كفّوا عن تربية صغار اليهود فى المدارس على البنادق والقتل وكتابة أسمائهم على الصواريخ التى كانت تقصف جنوب لبنان، ذلك أن ثقافة الكراهية هناك، وبؤرة العدوان والحرب هناك.
ذهب سعدالدين إبراهيم بسلامه إلى سلام موشى ديان المشابه القائم على القناعات ذاتها والمنطلقات نفسها. ويدعى سعدالدين إبراهيم أنه باحث عن السلام، من غير أن يفتح فمه بكلمة عما إذا كان اعتبار القدس عاصمة إسرائيلية توطيدًا أم هدمًا للسلام؟ من غير أن يفتح فمه بكلمة عما إذا كان سجن الطفلة عهد التميمى وأخواتها توطيدًا أم هدمًا للسلام؟ من غير أن يفتح فمه بكلمة عما إذا كان عدد الأسرى الفلسطينيين توطيدًا أم هدمًا للسلام؟ من غير أن يفتح فمه بكلمة عن التسويف الإسرائيلى فى الاعتراف بدولة فلسطينية؟. بذلك يواصل سعدالدين دور زملائه السابقين على سالم، وجورج بهجورى، وآخرهم يوسف زيدان الذى أعربت السفارة الإسرائيلية فى القاهرة عن سعادتها بتصريحاته الخاصة، بأن المسجد القائم فى القدس ليس المسجد الأقصى، وأن القدس ليست مكانًا مقدسًا. فى معهد موشى ديان قابل الطلاب العرب سعدالدين إبراهيم بصيحة سجلها شريط الفيديو فى كل مكان: «مطبّع حقير»، و«أنت عار على الشعب المصرى»، أما سعدالدين فقد أكد فى لقاء مع التليفزيون الإسرائيلى أنه يزور إسرائيل منذ عشرين عامًا!
ويبقى أن سلام سعدالدين إبراهيم وموشى ديان- يذكرنى بشوارع القاهرة وأزقّتها التى كانت تكتظ فى الستينيات بالقرداتية الذين يتوقفون تحت البيوت مع الواحد منهم قرد وعصا. يصيح القرداتى يأمر القرد: «سلام لرئيس الجمهورية» فيرفع القرد كفه إلى جبينه علامة على الاحترام، فيأمره القرداتى: «سلام لموشى ديان»، فينقلب القرد ويضع كفه على مؤخرته سخرية وازدراء، فيضج الأطفال بالضحك. والأرجح أنه لن يبقى من السلام الذى يدعو إليه سعدالدين إبراهيم سوى سلام لـ«سعدالدين إبراهيم» يقهقه بعده الأطفال. أما الشعب الفلسطينى الذى يبزغ فى أرضه كالورد وكالرصاص أطفال مثل عهد التميمى، ومحمد الدرة، فإنه قادر على انتزاع كامل وطنه وأرضه وسمائه.