رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جرثومة الفتنة (2-2)


في مقال الأسبوع الماضي ذكرنا أنه لأول مرة في تاريخ مصر يتم الاعتداء على الكاتدرائية المرقسية بالعباسية أثناء تشييع جنازة المسيحيين الذين استٌشهدوا في الخصوص على يد بعض المتطرفيين الدينيين, وذكرنا أن هذه الاعتداءات على المسيحيين

علت وتيرتها منذ سبعينيات القرن العشرين في عهد الرئيس المؤمن محمد أنور السادات الذي أطلق على مصر دولة العلم والإيمان, فمنذ ذلك الوقت تزايدت أحداث الاعتداءات على المسيحيين ومحلاتهم وبيوتهم وكنائسهم, وذكرنا أن المشكلات العادية تتحول إلى عنف ديني بهذه السهولة لأن الشخصية المصرية أصبحت تميل إلى استخدام العنف, ولأن مساحة التسامح بدأت تتقلص في المجتمع المصري, وأشرنا إلى أن جرثومة الفتنة تكمن في الخطاب الديني وذلك لأنه يلعب دورا كبيرا وخطيرا ولاسيما في مصر والمنطقة العربية في تشكيل ذهنية المتلقين, فالخطاب الديني المتطرف يغرس في نفوس السامعين بذار التعصب المقيت ورفض كل آخر ديني مختلف ومغاير, وفي هذا المقال نستكمل حديثنا عن التعصب الذي يكمن وراء كل حادث عنف ديني, والتعصب لا يغذيه الخطاب الديني فقط, ولكن التنشئة الاجتماعية تلعب دوراً كبيرا في غرس التعصب في نفوس الصغار, إن التعصب انغلاق وانكفاء نحو الداخل وارتداد على الذات وتقوقع في زاوية ضيقة، ورؤية قاصرة للكون, ولعل السبب في طغيان التعصب الديني, هو أن الدين يلتصق التصاقاً وثيقاً بالعاطفة والغريزة والأحاسيس التي تترسخ في أذهان البشر منذ الطفولة إلى درجة اعتبار الدين مسألة وجود أو عدم وجود, وما يزيد من رسوخ التعصب الديني هو التربية الصارمة والتنشئة الاجتماعية التي ينشأ عليها الطفل في المحيط العائلي والمدرسة بحيث يغدو الدين جزءاً لا يتجزأ من كيان الفرد، فقد وُجد أن التعصب الديني والعنصري يحدث في فترات مبكرة من الحياة فيما بين الخامسة والرابعة عشرة, وأن تأثير الوالدين يعتبر العامل الأساسي في تشكيل الاتجاهات لدى الطفل بالمحاكاة (التقليد) والاستماع المستمر لآرائهم, وأيضاً طرق التنشئة؛ فلا يقتصر تأثير الوالدين على استماع الأطفال لآراء والديهم المتعصبة فقط، لكن الآباء والأمهات يساعدون أيضا على خلق نمط الشخصية المستهدفة للتعصب, وفي المجمل يكون سلوك التعصب أو التطرف قد انتقل من الأسرة (المحيط العائلي) إلى الأبناء بواسطة آليات نفسية محددة هي (التعلم بالنموذج)، حيث الأم والأب يدعوان إلى التعصب في المواقف المتعددة كالمواقف الدينية، السياسية، العشائرية، القبلية، الأدبية والفنية, فمشاهدة سلوك التعصب لدى الأبوين والتركيز عليه داخل الأسرة، لا يثير لدى الطفل سلوكاً غير مرغوب فيه فقط، بل يغرس التعصب في ذاته, فسلوك التعصب عند الطفل لابد وأن يثير مشاعر معينة، يتآلف معها، حتى تصبح هذه المشاعر سلوكاً مقبولاً، ويصبح التعصب أو التطرف هو السلوك السوي, وهكذا فإن الطفل يتصرف تصرفاً متعصباً ويرقب سلوك الآخرين، ويبدي التبرير المناسب لسلوكه التعصبي أو المتشدد تجاه الموضوعات والثوابت التي تعلمها ونشأ عليها, وحتى نفهم مرض التعصب جيداً يجدر بنا أن نقول أن هناك بعض الأعراض التي تصيب المصاب به مثل: المثالية وإحساس الشخص المتعصب بكمالية ومطلقية وأحادية الفكرة التي يؤمن بها، هذا فضلاً عن أن أعضاء الجماعة المتعصبة يعتبرون أنفسهم في حالة صراع عالمي ضد مؤامرة كبرى تحاك لهم, مما يجعلهم يعيدون تفسير و تأويل حقائق التاريخ بصورة مغايرة للواقع لتدعيم صراعهم العالمي وتصوير معارضيهم على أنهم شياطين و أشرار وأعداء يستحقون المقت والكراهية, هذا بالإضافة إلى كراهية المتعصبين للحداثة وللمجتمعات الأكثر تطوراً واعتبارها حجر عثرة أمامهم ولذلك فإنهم كثيراً ما يوجهون إليها لومهم و عنفهم بزعم حماية التقاليد, وانقاذ الهوية, وارجاع الدين, ومنع فساد الأخلاق, وإحياء الأمة......الخ إن التعصب يقلل القابلية للتسامح والتعايش مع الغير, ومن ثم فإنه يتحول إلى برانويا مرضية مولعة بصحة رأيها وخطأ الرأي الآخر المختلف, مما يدعو المتعصب إلى اعتزال الآخرين والالتصاق بمن يشاركه نفس التعصب, ومن ثم تُبنى الكراهية في النفوس مدعومة بالرغبة في عمل شيء ضد الآخرين الذين أصبحوا في خانة المعادين الأشرار, ثم يتراكم هذا ويتحول شيئاً فشيئاً إلى سلوك شرير ينتهي بالعنف أو القتل أو الإرهاب المبرر, ولعلاج مرض التعصب لابد أن يحدث إصلاحاً في الخطاب الديني, والذي يؤثر بدون شك في عملية التنشئة الاجتماعية, فالنصوص الدينية التي تدعم التسامح والمحبة وقبول الآخر ما أكثرها, فلماذا لا نسمعها كثيراً في الخُطب ومن على المنابر؟!! ولماذا لا تحدث غربلة لكل ما يتناقض مع روح التسامح؟!! فإذا وُجد في الموروث الديني ما يُفهم منه أنه ضد التسامح مع الآخر الديني المغاير فلا مناص من الأخذ بالسياق التاريخي والحضاري وأسباب النزول والتأويل وذلك بغية ترسيخ فكر التسامح وقيم التعايش, إن القبول بالتعايش مع التنوع ضرورة حتمية في حياتنا اليومية لأن التنوع موجود وعدم الاعتراف به هو تجاهل للواقع الإنساني الحياتي فهناك الرجل والمرأة, وهناك الأبيض والأسمر, وهناك المسلم والمسيحي واليهودي والبهائي, وهناك اللا دينيون, وهناك من يدينون بالأديان الوضعية, وهناك ساكنو الحضر وساكنو الريف وساكنو البادية, ولذا علينا أن نحترم التنوع وأن يقبل الجميع كل من هو مختلف عنهم ويعيش معهم على أساس المساواة والديمقراطية والحرية والمواطنة, واذا كنا نقر بأن الحياة هي صراع, والصراع هو من أجل البقاء، والبقاء للأقوى, فهذا لا يعني بالضرورة ان هذا الصراع يستوجب الغاء الآخر واعلان سيادة الأنا عملاً بمبدأ من ليس معي فهو ضدي ، بل ينبغي أن يكون الصراع من أجل إبراز الخير للانسانية, والبقاء سيكون للذي يناضل من أجل سيادة قيم الحرية والمساواة والاخاء والخير والسعادة لصالح البشرية جمعاء دون تمييز لدين أو لون أو عرق أو قومية, إن الحضارة الإنسانية ازدهرت وازدهت بالتنوع والتعدد, والأحادية لم تصنع إلا أفولا وذبولا, لذا فكم نحتاج لأن نختلف ونأتلف, ولنتيقن أن اللحن الواحد لايعطي نغما جميلا, والعصفور الواحد لا يصنع ربيعا, والزهرة الواحدة لا تصنع بستانا .

ولا يوجد في تاريخ التسامح الديني في العالم عبارة أشهر ولا أصدق من الأبيات الخالدة للشيخ محي الدين بن عربي:‏ المتوفي( سنة638هـ) والتي قال فيها :

لقد كنت قبلاً منكراً كل صاحب إذا لم يكن ديني إلى دينه داني‏

وقد صار قلبي قابلاً كل ملة فمرعى لغزلان ودير لرهبان‏

أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني‏


راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف – شبرا

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.