رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حلمى النمنم وأسطورة بحر العسل... « 1/2»


هذه قصة كتاب قرأته ففتح أمامى أبواباً كان من الصعب أن أقترب منها أو ألج فيها، هذا - إن أردتم التوصيف - كتاب مغامرة أو مغامرة فى كتاب .. فمغامر هو ذلك الذى يدعونا للتفكير والبحث والتنقيب حول أحد «التابوهات المقدسة» فما تعوَّد الناس

على قدسيته يظل فى عيونهم كذلك حتى ولو لم يكن كذلك فعين الرضا عن كل عيب كليلة وعين البحث لا تُرضى الذى هوى، ومن كان فى أعراف الناس المتواترة قديساً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كان الدخول إلى سيرته بعقلية الباحث لا بعقلية المريد أمراً محفوفاً بالمكاره، والشىء بضده يُذكر فإذا كان الإمام الليث بن سعد ضيعه أصحابه إذ لم يدونوا علمه ولا سيرته فإن الشيخ حسن البنا قدسه أصحابه وجعلوه مُلهَماً مُلهِماً لم يقع فى هفوة قط فى حياته كما كنت أقول ذات يوم وكما قال ابنه أحمد سيف الإسلام .

عبر تاريخى كله قرأت ـ وأزعم أننى فعلت- كل ما أخرجته المطابع عن حسن البنا، أحببت هذا الرجل وشغفت به وبفهمه وبصيرته وفتتت كبدى نهايته المأساوية .. إلا أننى بعد سنوات من القراءة والبحث والتنقيب كنت أمج مغالاة الغالين وأكره أيضاً إجحاف المجحفين، ولا أنزه نفسى عن أننى كنت فى الفترات الأولى من حياتى قد وضعت الرجل فى مكانة أولياء الله الصالحين الصديقين أصحاب المراتب الإيمانية العليا، بكيت عندما قرأت عن بكائه وضحكت فى مواضع ضحكاته وبهرنى بذاكرته وفراسته وشدته على نفسه فى العبادة حتى قلت فى نفسى إن هذا رجل لم يقع فى هفوة قط وكأنه أرقى من الصحابة أجمعين !!! ولعل الحب ومراتب الهوى هى التى جعلتنى من المشدودين للبنا والمشدوهين به ... إلا أننى بعد أن استقام عودى أدركت أن الإنصاف للرجل إنما يكون بتأديمه «أى رده إلى آدميته» فالآدمية - لا الملائكية- هى التى ترفع قدره، وإذا كان الله قد خلقنا من طين فلا ينبغى أن نحوِّل أنفسنا أو نحوِّل من نحبهم إلى ملائكة نورانيين، وتنزيه البشر إنما يكون بتعديد معايبهم وإبعادهم عن الكمال لأن الإقرار بنقائصنا هو فى ذاته الإقرار بكمال الله ... وإذا كان الأنبياء غير منزهين عن الخطأ بل إن الله سبحانه وتعالى عندما أراد أن يمدح سيدنا أيوب وسيدنا سليمان قال عنهما ( نعم العبد إنه أواب ) أى أنهما كانا يخطئان فيستغفران الله عما بدر منهما من نقص أو خطأ، فمن باب أولى يكون من هم دون الأنبياء أولى بأن ننظر إليهم وفقاً للآية الكريمة ( ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها ) فالإنسان إنما يكون بين الفجور والتقوى، تجذبه طينيته التى خلق منها إلى ما يُشبع هذه الطينية تارة، وترتقى به النورانية التى خلقت روحه منها تارة أخرى، فما من أحد منا إلا وهو يعيش حياته قريباً من هذه أو تلك، والخطأ هو أساس بشريتنا ولو لم نُخطئ لجاء الله بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر الله لهم .... وأظن أن الكتاب موضوع هذه المقالة وضع هذا النهج أمام عينيه وهو يشرح ويحلل ويناقش ويقبل ويرفض .

فى كتابه «حسن البنا الذى لا يعرفه أحد» من إصدارات مكتبة مدبولى يدخل بنا الكاتب الكبير حلمى النمنم إلى عالم التقديس الإخوانى للشيخ حسن البنا، كانت مهمة الكاتب فى كتابه هى «تفكيك القداسة» الوهمية لرجل من بنى البشر وإعادته إلى بشريته الخالصة بعيدا عن مغالاة المغالين وإجحاف الرافضين وتأويل الجاهلين، كان المشهد الذى دخلتُ فيه إلى الكتاب يتمثل أمامى وكأن النمنم جلس فى غرفة التاريخ مع الشيخ حسن البنا حيث ارتدى الشيخ الرداء الأزهرى رغم عدم أزهريته وارتدى النمنم عباءة التاريخ وأمسك قلماً رصاصاً ليكتب به أفكاره ونتائج محاوراته مع الشيخ الجليل ومن فوق كتفه تدلى جراب الوثائق، وتخيلتنى وأنا أسأل النمنم عن سر القلم الرصاص الذى يكتب به؟ هل يود من خلاله الإيحاء بأن بتنظيم الإخوان الخاص فتح المجال للرصاص؟!! ولدهشتى قال النمنم لخيالى الجامح : لا ينبغى أن يكتب الكاتب الحق كلماته إلا بالقلم الرصاص فإذا كتب جملة تحمل رأياً أو فكرة أو معلومة ثم ثبت له بعد ذلك بعدها عن الصواب كان عليه أن يمحوها بالممحاة تماماً كما يفعل القضاة وهم يكتبون أحكامهم لذلك أكتب بالقلم الرصاص.

وحين بدأت فى قراءة الكتاب أدركت كم كانت مهمة الكاتب شاقة وعسيرة إذ إنه لم يعتمد فى بحثه القيِّم عن شخصية البنا الإنسان والداعية والسياسى على الكتب التى كتبها خصوم الإخوان السياسيين، كما أنه لم يعتمد على المؤلفات التى كتبها المريدون والمحبون، ولو فعل هذا أو ذاك لفقد حياد الباحث، ولكنه اعتمد على وثائق تاريخية بالغة الخطورة منها مجلات وصحف الإخوان فى فترات الأربعينيات ووثــائق السفارتيـن البريطانية والأمريكية الرسميـة عن علاقاتهما بالبنا وبعض مقالات كتبها الرئيس الراحل أنور السادات عن علاقته بالبنا، وكانت هذه المقالات قد كتبها السادات فى فترة «بحر العسل» الذى كان بين الإخوان والثورة، فضلاً عن أن الكاتب عاد إلى الرسائل التى كان يرسلها حسن البنا لأبيه والتى نشرها الشقيق «جمال البنا» رحمه الله، ثم عمد الكاتب إلى تحليل النصوص الإخوانية التى كتبوها عن الشيخ وكان الأهم من وجهة نظرى هو تحليل ما كتبه البنا نفسه فى كتابه الوحيد «مذكرات الدعوة والداعية» ومقارنة ما كتبه برسائله إلى أبيه، وأجرى الكاتب دراسة تحليلية وافية عن سر قيام الإخوان بحذف فصل من فصول الطبعة الأولى لكتاب الدعوة والداعية حين أعادوا نشره فى السبعينيات، فضلاً عن إبراز الاختلافات التى ظهرت للكاتب من خلال التناقض بين مذكرات الشيخ ورسائله لأبيه وتحليله لسر هذا التناقض، أما مذكرات المقربين من البنا فى تلك الحقبة مثل مذكرات الشيخ الباقورى ومحمود عساف سكرتير البنا للمعلومات ومذكرات الشيخ سيد سابق وبعض ما كتبه الشيخ محمد الغزالى فقد عاد إليها الكاتب المدقق ليكشف من خلالها أموراً كانت خافية أو مخفية فى طريقة البنا لإدارته للجماعة وجنوحه بها ناحية السياسة وإنشاء النظام الخاص الذى لم يكن يعلم به معظم أفراد النظام العام للجماعة .. وبعض عمليات الاغتيال التى قام بها النظام الخاص، وأحاسيس البنا المتضخمة بذاته .. وكان من المنصف أن تطرَّق النمنم إلى تقشف البنا وابتعاده عن ملذات الحياة حتى إنه كان يفرش بيته بالحصير وأقل القليل من المتاع، لم يكن حسن البنا باحثاً عن المال إذن ولكن كانت له مآرب أخرى، وعن هذه المآرب سيكون الجزء الثانى من هذا المقال الذى نبحر فيه فى كتاب حلمى النمنم «حسن البنا الذى لا يعرفه أحد».