رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

على معزة.. هذا الفيلم الفاشل.. مع مرتبة الشرف


فى تفسير الأحلام هى فتاة كريمة، ومن رأى «معزة» فى المنام فربما يقود قطيعًا فى المستقبل، فالأغنام كلها خير، وفى العصر المملوكى ظهرت «معزة» تعرف مواقيت الصلاة وتقف على باب المسجد لتقدم وصلة طويلة من المأمأة، وفى التراث الشعبى المصرى يعتبرها البعض فتاة يتيمة ترق لها القلوب، هذا قبل أن تتحول على السوشيال ميديا إلى نموذج للبنت المنحرفة فى واقعة «إبنى يبوس اللى هو عايزه واللى عنده معزة يربطها».


وفيلم «على معزة.. وإبراهيم» يجعل منها بديلًا للفتاة التى أحبها «البطل»، فقد ماتت «ندى» بشكل كوميدى حين كانت تسير مع «على» فوق كوبرى قصر النيل، فسقطت من إحدى فتحاته، وفقدّ خطيبها الوعى تقريبًا، وعندما استيقظ كان يحتضن «معزة بيضاء صغيرة» وأيقن دون غيره أن روح «ندى» تجسدت فيها!، ويعيش بهذا اليقين مُعرضًا نفسه للسخرية وللغمز واللمز، ومؤكدًا للجميع أن «ندى» ليست معزة كما يظنون!

إبراهيم.. عبقرى الموسيقى يتعرض هو الآخر للمعايرة بانتحار والدته، وبالأصوات التى تطارده ليل نهار وتصعقه بقوتها وضجيجها، وكما يحمل «على معزة» عار الماضى ويتحمل سخرية والدته ومعايرة عيال الحارة، يعيش إبراهيم مسجونًا بين تاريخ الجنون العائلى خائفًا من مصيره مع تلك الأصوات التى تدفعه للانتحار كل ليلة.

كلاهما يبحث عن نفسه، والشيخ يقول لوالدة «على» إن الجن يسكن جسد ابنها ويعطيها كيس فيه ثلاثة أحجار!، وهو نفس الكيس الذى أعطاه لإبراهيم كى يلقى به فى البحرين الأحمر والأبيض فتخرج العفاريت وتختفى الأصوات التى تصعقه!، ويلتقيا سويًا على ناصية حارة ضيقة فى الدرب الأحمر لتبدأ رحلتهما اللطيفة إلى الإسكندرية وسيناء.

هذا اختصار مخل لفيلم «على معزة.. وإبراهيم»، فالقصة وحبكة السيناريو ليست مهمة - من وجهة نظرى - فى هذه التجربة التى اهتم صناعها بتقديم أفكار فلسفية بشكل سلس وبسيط يجعل من الحارة الشعبية مكانًا لبشر يتألمون نفسيًا وتحاصرهم الضغوط والأحلام والهواجس، فليست كل الحوارى المصرية سنجة ومطواة ومحمد رمضان، وصناعة فيلم قد لا تتطلب مشاهد جنس وعنف وبلطجة، والسينما أيضًا - وهذا هو الأهم - ليست «نجوم شباك» يصنعون فيلمًا جماهيريًا يحصد الإيرادات وينتهى الأمر، لكنها قد تكون «على معزة وإبراهيم» الذى كتب له السيناريو أحمد عامر، عن قصة لإبراهيم البطوط، قد تكون عن تباع ميكروباص خائف مرتجف لا يجرؤ على قيادة السيارة المهكعة التى ورثها عن والده، لكنه يحمل قلب طفل يحب «معزة» ويستغنى بها عن الوجود، وقد تكون قصة عن هذا الشاب الوديع الذى يعشق الموسيقى ويعمل مهندس صوت فى استوديو شعبى حقير ويعانى - وحيدًا - عذاب الماضى وأصواته المزعجة، السينما قد تكون عن «كاماتا» - الموهوب أسامة أبوالعطا - سائق الميكروباص الذى يقرر الزواج من بائعة الهوى - ناهد السباعى - فى «نوبة حب جارف» تجعله يغفر لها خطاياها.

قد تكون السينما كذلك، فتخرج من العرض وأنت تفكر فى معنى «المعزة» وفلسفة هذا التباع ومنطق هذا السائق، تسأل عن سر الماضى الذى يعيش داخلك ولا تقوى على مواجهته.

السينما هى ميلاد مخرج جديد للأفلام الروائية الطويلة، اسمه «شريف البندارى»، نجح فى تقديم رؤية بسيطة لقصة صعبة ومعقدة، السينما هى صناعة كل هذه الفنيات بفريق من الشباب الموهوبين: «عمرو فاروق - تصوير، عماد ماهر - مونتاج، أحمد الصاوى - موسيقى، ريم العدل - ملابس، أحمد فايز - ديكور».

السينما هى المغامرة بتقديم فنان موهوب اسمه «على صبحى»، حصل بهذا الدور على جائزة أحسن ممثل فى مهرجان دبى فى دورته الأخيرة، وحفر اسمه وسط الكبار بعد تجارب مسرحية عديدة، وهى إعادة اكتشاف للموهوب «أحمد مجدى»، الذى تجرد من أدواره السابقة وتخلى عن طيف نجوميته وبدا وكأنه يقف أمام الكاميرا لأول مرة، فهو هنا ليس بطل فيلم «باب الوداع»، وليس الشاعر فى مسلسل «العهد» وليس الضحية الذى ينتقم من جلاديه فى «الخروج»، هنا هو ممثل مبتدئ، يتجرأ من مشهد إلى آخر حتى يتألق مع «على صبحى»، ليصنعا هذا الثنائى الجميل لصديقين من حارة شعبية يسكنهما الخوف والاغتراب عن العالم، فيقتربان وينسجمان ويساعد كل منهما الآخر.

السينما هى بحث شباب هذا الجيل عن طرق بديلة للتمويل والإنتاج بعيدًا عن هيمنة رأس المال والتعقيدات الحكومية، وهى ظهور فنانة كبيرة «سلوى محمد على» وسط هؤلاء الشباب، وموافقة «آسر ياسين وصبرى فواز» على المشاركة كضيفى شرف.

ولم يكن لهذا المفهوم المغاير والمختلف عن السينما أن يتحقق إلا بمغامرة كبيرة، أقدم عليها المنتج محمد حفظى ومعه السيناريست والصديق حسام علون، فكلاهما كان يعرف أن فيلمهما خالٍ تمامًا من عناصر النجاح الجماهيرى، ولا أظنهما انشغلا كثيرًا بالإيرادات بقدر الاهتمام بظهور تجربة تكسر احتكار السوق وتفتح أبوابًا جديدة للسينما المستقلة فى مصر، فشكرًا لهما ولفريق الفيلم على الفشل الجميل.