رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكبار الثلاثة


ودّعت مصر، فى الأيام القليلة الماضية، ثلاثة من كبار العلماء، وعِظام المفكرين، الذين خدموا وطنهم بإخلاص، وحملوا على عاتقهم قضاياه بتفانٍ، ومنحوا شعبهم خلاصة جهدهم دون تردد، وتركوا بصمة لن تمّحى فى تاريخ بلدهم.

هؤلاء العلماء الكبار هم أستاذ الأدب العربى والناقد الكبير الأستاذ الدكتور عبدالمنعم تليمة، والمفكر وعالم الاقتصاد الكبير الأستاذ الدكتور محمد عبدالفضيل، وأخيرًا المفكر والأستاذ الكبير سيد ياسين.

وقد كان من حُسن طالعى أن التقيت بهم، وتفاعلت مع أفكارهم، وتابعت بشغف مسيرتهم العلمية، وتمتعت بصداقتهم الرفيعة، واقتربت من مشاريعهم الفكرية والعلمية، التى كانت فى جوهرها، مشاريع تأسيس فكرى وطنى، ولبنات فى بنائنا النهضوى، الذى ظل- رغم كل ما تعرّض له من صدمات، وواجهه من عقبات- قادرًا على البقاء، ومُعبِّرًا- بصدق- عن آمال المصريين، وأحلامهم المشروعة فى الارتقاء والتقدم..

والأستاذ سيد ياسين أحد الرواد المؤسسين لعلم الاجتماع السياسى، وعلم الاجتماع القانونى، وعلم الاجتماع الأدبى، ولمناهج البحث والتحليل الثقافى والسياسى، والتخطيط الفكرى الاستراتيجى، فضلًا عن دوره التأسيسى فى إنشاء وتطوير العديد من مراكز التفكير والأبحاث، بالغة الأهمية، فى بلادنا، مثل «المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية»، و«مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، وغيرهما.

أما عطاء الأستاذ سيد ياسين الفكرى والثقافى والسياسى، فأكبر من أن يُحاط به فى هذه العجالة، لأنه توزع على عدد كبير من مجالات البحث العلمى، وأروقة مراكز البحث والجامعات، وعلى جرائد ومجلات، ودوريات وملفات، وندوات ومؤتمرات، سياسية واستراتيجية، مصرية وعربية وأجنبية، لا عد لها ولا حصر.

كما أن كتبه غطت مجالات فكرية وثقافية وعلمية واستراتيجية عديدة، شملت علم الاجتماع بفروعه المتنوعة، ونظريات المعرفة والتحليل العلمى، ومجالات الفكر السياسى والاستراتيجى، النظرى والتطبيقى، وعلم النفس والنقد الأدبى، والتخطيط الأكاديمى، وغيرها، ومن أهمها: «دراسات فى علم الاجتماع القانونى»، و«دراسات فى السلوك الإجرامى»، و«السياسة الجنائية المعاصرة»، و«مصر من الأزمة إلى النهضة»، و«تحليل مفهوم الفكر القومى»، و«الوعى التاريخى والثورة الكونية»، و«شبكة الحضارة المعرفية»، وغيرها.

كما أن الراحل الكبير، الذى وُلد بالإسكندرية، وغادرنا عن 84 عامًا، ودرس القانون فى كلية الحقوق جامعة الإسكندرية وفرنسا، نال جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية، وحصل على وسام الاستحقاق الأردنى من الطبقة الأولى عام 1992، ووسام العلوم والآداب المصرى عام 1995.

لكن التأثير الأعظم، فى يقينى، لهؤلاء المفكرين الكبار الثلاثة، لا يكمن فى كتاباتهم العلمية والفكرية، على بالغ أهميتها، ولا فى محاضراتهم الأكاديمية، على واسع تأثيرها، وإنما يكمن فى أنهم جميعًا كانوا «مُعلمين» بالمعنى العميق للكلمة، أى اهتموا فائق الاهتمام، بنقل خبراتهم الكبيرة، وعلمهم الغزير، إلى أجيال من الباحثين والعلماء والمفكرين الشباب، الذين أصبحوا أساتذة ومفكرين وسياسيين كبارا، وتوزعوا، لا على أرجاء «المحروسة» وحدها، وإنما فاضوا بالعلم الذى تلقوه على أيدى هؤلاء المعلمين المحترمين، على مساحات جغرافية أوسع، غطت بلدان الوطن العربى كله.

وكما كان من أسباب عرفانى أنى تفاعلت مع الأستاذين الكبيرين: عبدالمنعم تليمة، ومحمود عبدالفضيل، فى سياق الاهتمامات الفكرية والوطنية والجماهيرية المشتركة، فقد كان من مصادر سعادتى التى حرصت على الاستزادة العلمية والفكرية منها، بكل اهتمام واحترام، أن زاملت الأستاذ سيد ياسين، فى الكثير من الملتقيات الثقافية، وفى عضوية «المجلس الأعلى للثقافة»، ولجان الجوائز بالمجلس، كما كنت معه، ضمن مجموعة المثقفين الذين التقوا رئيس الجمهورية، فى مثل هذه الأيام من العام الماضى، وتناقشوا معه فى مشكلات وهموم مصر والمصريين.. رحم الله هؤلاء العظماء الثلاثة، وعوضتنا عنهم مصر «الولّادة» بمن يستكمل مسيرتهم العطرة.