رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحق في «العَلام»


ناقشنا فى المقال الماضى وضع «طبقية» التعليم، الذى صار سمة أساسية فى عملية التعليم بمصر، فى مرحلة «ما بعد الثورتين»، وما خلقه من تمايزات اجتماعية حادة، من حيث النوعية والكفاءة، التى أصبحت تُفَرِّقُ بين تعليم أبناء الوطن الواحد، بل أبناء الطبقة الواحدة، وهو ما يعنى تمزيق اللُحمة الوطنية، واستقبال أجيال متناحرة، لا رابط يجمعها، ولن تكون مؤهلة للحفاظ على سلامة الوطن، وحماية مرتكزاته وهويته.



لقد كشف عن واقع أزمة التعليم لدينا، سؤال صدمنى، مؤخرًا، لنائبة فى البرلمان الكويتى، حول مبرر استقدام 23 ألف مدرس مصرى لتعليم أبناء الكويت، فى الوقت الذى تحتل فيه مصر المركز 139 من 140، على «مؤشر التنافسية العالمية فى مجال التعليم»، «2015 – 2016»!.

وهو سؤال جارح، ومعناه كارثى، لمن لم يدرك كُنه السؤال، ولأولئك الذين لا يجدون جدوى من الإنفاق على تطوير التعليم الآن، لأن نتائجه تستغرق وقتًا، كما عبَّرَ بعض المسئولين فى الدولة. تصريح صادم، لا لمجافاته للحقيقة، أو لقسوته البالغة، ولكن لأنه يفاجئنا بمرارة الواقع الذى لا يُريد البعض رؤيته على حقيقته!.

مصر خسرت، وتخسر الكثير، أدبيًا ومعنويًا، من مخزون قواها الناعمة، التى صنعت مكانتها السامية على مر التاريخ، والأدهى، لمن لا يهمهم إلا المردود المادى المباشر لتوجيه الإنفاق فى الدولة، أن انهيار وضع التعليم والبحث العلمى فى بلادنا، أصبح، وسيصبح، سبباً فى خسائر مادية هائلة، ولنتصور أن هذا التشكك فى قيمة وجدارة المُعَلّـِم المصرى انتشر فى كل البلدان التى يوجد بها مئات الآلاف من المعلمين المصريين، من الحضانة إلى مراحل التعليم العالى، فكم سيكون حجم الخسائر، وكارثية هذا الوضع؟!، بل كم من ملايين الفرص الضائعة، أمام المصريين، نفقدها اليوم، بسبب ضعف مستوى تعليم وتأهيل الخريجين والعمالة، فى عصر لا يعترف إلا بالحاصلين على تعليم رفيع المستوى، وإعداد فائق الجودة.

والذين درسوا تجربة صعود دولة صغيرة، كسنغافورة، على سبيل المثال، وتقدمها من موقع الدولة الفقيرة المتخلفة، إلى مصاف الدول المتقدمة، فى عقود محدودة، وهو ما قاد إلى ارتفاع متوسط دخل الفرد من 1000 دولار إلى 40 ألف دولار فى العام، سيلحظون الدور الأساسى الذى لعبته سياسات التعليم الصحيحة، وخطط مكافحة الفساد الناجعة، فى تحقيق هذه الطفرة، كما شرح «لى كوان يو»، رئيس وزرائها الذى قادها لتحقيق هذه المكانة الرفيعة، فى مذكراته المعنونة: «من العالم الثالث إلى العالم الأول، قصة سنغافورة من 1965 إلى 2000».

ولماذا نذهب بعيدًا، وعلى مرمى حجر من بيتنا، حيث يقبع العدو التاريخى: إسرائيل، ما ينبغى التنبّه له؟!.. فتجربتها التى لا تتجاوز السبعين عاماً، منذ اغتصاب فلسطين عام 1948، وما حققته من «مكانة» و«هيمنة»، بل حتى «سطوة» و«بلطجة»، إنما قام على أساس امتلاك قاعدة علمية وتكنولوجية متينة، بصرف النظر عن الكيفية التى أنشأوها بها، ودور الغرب وأمريكا فى تقديم كل أشكال الدعم المجانى لها، فى هذا الشأن، باعتبارها قاعدة ارتكاز استراتيجى لها فى بلادنا!.

فكل القادة الكبار فيها، أو «الآباء المؤسسين»: «تيودور هرتزل»، «حاييم وايزمان»، «ديفيد بن جوريون»، «إسحق رابين»، «شمعون بيريز»، وصولاً إلى آخر مسئوليهم، «بنيامين نتنياهو»، توافقوا على إيلاء العلم والبحث العلمى والتفوق التكنولوجى، المكانة الرفيعة من موقع اهتمام «الدولة»، باعتبار هذا الأمر مصدر القوة، والمُعادل الموضوعى للفارق فى التعداد البشرى، ولسان حالهم يقول: «إذا كان العرب قد فاقونا من حيث (الكم)، فسنسود عليهم بـ(كيف) متميز»،... وقد كان!