رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن اليتم وخمسة آباء



كتبت هذا المقال فى شهر يونيو 2012 دون أن أعلم آنذاك أن أبى يحتضر وأننى على وشك فقده.

علمت بذلك يوم ميلادى 29 أغسطس 2012 واليوم أنشر لكم ما كتبت منذ قرابة خمسة أعوام وبعد أن فقدت أبى.

لى أب بيولوجى لم يمت بعد كما يموت الناس - من حظه وحظى - ورغم ذلك كنت أشعر باليتم والوحدة والخوف من حالة الترقب والسؤال الذى لا تعقبه إجابة.. ماذا بعد؟.. ماذا عن الغد البعيد قبل القريب؟.. هل ستنحسر طبقتى وأتحول فيها ومعها لطبقة دنيا؟.. هل سأمرض وأعجز دون امتلاك المقدرة على النهوض والعيش من جديد؟.. هل سأكون فى عوز و«حوجة» لا أطيقها ولا أستطيع احتمالها؟.



الموت عندى أرحم من تلك اللحظة.. هل ستأتى اللحظة؟ هل من خلاص؟ هل من مغيث؟ هل من بشير؟.

أبونا الذى فى فيينا

وفجأة جاءت البشرى.. على يد الآتى من على الضفة الأخرى من النهر.. أبى القادم من فيينا حيث ليالى الأنس التى لم أعشها وليست جزءًا من ثقافتى، وكل ما أعرفه عنها هو الأغنية وأسمهان ولم أرغب يوما ومازلت لا أرغب فى زيارتها.. فى حين جاء لى منها ذلك الزائر المقيم هنا بجذوره وتاريخه قبل حاضره ومستقبله.

مصرى عاش فى الخارج ثم جاء للداخل يحمل معه التغيير.. وكأن الفعل والكلمة لم يكونا فى القاموس قبل مجيئه.

قدومه كان له وقع خاص.. وتأثير مختلف وكأنه ينغزك برفق لترتد وتنتفض وتتحرك دون أن يدفعك دفعًا، لذلك جاء بالخير الذى كنت دومًا فى انتظاره دون أن أدرى.. وصار لى أب – لم ألتقه للآن –فزاد ذلك من جلال ورونق الحالة ليصبح الشخص وفكرته ريشة تداعب الروح بلطف وهوادة.

وهذا النسق هو الأثير والمفضل لدىَّ، فأنا من هؤلاء الذين يفضلون «غاندى» على «تيتو» ويحبون «كويلهو» أكثر من «كونديرا» ويبحثون عن نبى لا زعيم يحمل على الأعناق ويقود الملايين ويلهب مشاعرهم بهتافه وصوته وربما جسده وكل عناصر ومؤثرات الكاريزما. أفضله هادئًا مفكرًا بطيئًا.. صوته واطى وأخلاقه عالية.. لا مناضل بكل ما تحمله الكلمة من صوت عال وأخلاق واطية..

هكذا أفضله.. ولهذا وقعت فى بنوته.. وصار أبى الذى فى فيينا وفى مصر دون أن أستأذنه فى تلك البنوة .. ودون أن يعرض هو علىَّ التبنى!!.

أبونا الذى فى ميريت

«محمد هاشم» أبو الثورة باقتدار.. معلمنا ومولانا وأبونا وصديقنا العربيد .

يثور فى 3 ثوان ليهدأ فى ربع ثانية.. تراه تظنه مغيبا وهو فى كامل قواه العقلية والذهنية والنفسية والروحية.. تعرف أنه بشر لكنك تظن أحيانًا أنه طير أو ربما جرو صغير وفىّ يحب من على شاكلته فقط من صغار الجراء الأوفياء.. لديه 3 بنات يعشقهن كما يعشق كل كائن حى دون تمييز بين الكائنات.

أكرم من التقيت فى حياتى على جميع الأصعدة والمستويات .. ينفق من ماله وطاقته ونفسه وعقله وقلبه وجسده من أجل الآخر وإن لم يستحق.. فصار أبًا لى دون أن أشاوره فى الأمر.. أحتمى بحضنه المستباح وقلعته غير المحصنة «دار ميريت»، كعبة المريدين وقبلة الثوار وملاذ الضائعين.

شعرت بالأمان فى داره التى تعج بكل ما يدعو لعدم الأمان!!، ولم أعد وحيدة.. وسط صخب المتوافدين على الدار ليل نهار حتى صار هاشم هو الغريب وسط كل هذا الزحام الذى تمتلئ به داره التى لم تكن يومًا له وحده أو ملكًا له بل مشاعًا للجميع.. لمن يستحق ومن لا يستحق.. فعند هاشم كل كائن حى يستحق الحياة ويستحق أن يحيا فى «ميريت».

أبى القبطى

أى من السكان الأصليين لجمهورية مصر العربية.. إنه «كمال زاخر موسى» وكأن قدرى أن يكون الكمال أبًا لى.. بل يكون ذلك الكمال الأب مسيحيًا.. ليكمل لى نصف دينى ويزكينى أمام الإله الواحد الأحد الذى سأقف أمامه وأنا أفخر بأننى لم أكن يوما عنصرية خلال حياتى الأولى.. فللحق والإنصاف والتاريخ.. لقد كان لى أب يدعى أيضًا «كمال» وهو الأستاذ «كمال رمزى» أول من دفعنى للكتابة، ثم جاء الأستاذ «كمال زاخر» الذى تحول لأب لى بعد أن نطق بعبارة «إنت بنتى البكرية» فتشبثت أنا بالمقولة وصارت واقعًا أو جعلتها أنا واقعًا.. أحسسته فاخترته.. وأنعم به الآن وأتمنى دوام تلك النعمة علىَّ دومًا.

ثم صارت لى فجأة عائلة كبيرة.. أب و3 شقيقات من جيلى وشقيقان تشاركت مع أحدهما فى النزول للمظاهرات وأم تدعى «سوسو» تعشق سلطويتها الحانية وطعامها الشهى.

انصهرت فى أركان البيت وأحضان ساكنيه.. حتى صرت منهم وصاروا منى وشكلنا جميعًا فسيفساء مصرية خالصة غزلناها بدقة خزفى وحيوية راكب أمواج.

ما أجمل أن يكون لك خمسة آباء.

وما أسعد من يصبح له فى تلك الحياة ضهر وآباء يلتجئ إليهم.

كل تلك الرؤى والأفكار والمشاعر ما كانت لتولد لولا أن ثار شعبى.. فى واقعة سميت إعلاميًا بثورة يناير المجيدة... وبالتالى أهدى ما كتبت للآباء الخمسة الذين ذكروا فى المقال أو مساحة البوح أو الفضفضة أو الحكاية.. وأهديها أيضًا لخمسة رجال آخرين تمنيتهم آباء:

سمير فريد

رؤوف توفيق

والد هند الحناوى

أحمد فؤاد نجم

والجزائرى «محيى الدين عميمور».