رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكنيسة والنُخب المسيحية


لقد وصف الإمام محمد عبده «1894 ـ 1905» وطنية الحركة العرابية بقوله: «هل يقدر أحد أن يشك فى كون جهادنا جهاداً مقدساً بعد أن آزره رجال من جميع الأجناس والأديان فكان يتكالب المسلمون والأقباط لنجدته بحماس غريب وبكل ما أتوه من حول وقوة لاعتقادهم أنها حرب بين المصريين والإنجليز وقد شمل هذا الحماس فى التبرعات والاشتراك فى القتال الأقباط وكان يشجعهم على ذلك رؤساؤهم..». يقول الكتاب المقدس ــ فى الاعتزاز بالوطن ــ عن مكان حياة السيد المسيح: «وَلَمَّا جَاءَ إِلَى وَطَنِهِ..» «إنجيل متى 13: 54»، ورغم أن رسالته كانت للعالم كله، وعليه فإن الكنيسة القبطية العتيدة تضع اسم الوطن دوماً مع اسم الكنيسة لتعريفها «الكنيسة المصرية».. وستظل الكنيسة هى مدرسة المسيحية المصرية وكيانهم الروحى الخالد، وسيظل الانتماء لها عنواناً لتدين أقباط مصر، فإذا أضفنا ما ذكره قداسة البابا شنودة الثالث حول تصوره للدور الاجتماعى للكنيسة بمجلة «الكرازة» بتاريخ 15 أبريل 1980، قائلاً: «لا يمكن منع المؤسسة الدينية من القيام بدورها الاجتماعي، وأى اعتراض من قبل الدولة على هذا الدور ينعتها بالسلطوية». ومنذ إعلان ذلك التصور، كان الاتجاه لتوسيع بوابات الكنائس لتصبح الوطن والبيت الأبوى للأقباط فى عملية تداخل فى تفاصيل حياة المواطن المسيحى المصرى، وأن تصبح فى النهاية لسان حال الأقباط، والكيان الضخم التعليمى والتربوى والدينى والاقتصادى كمان... وبينما كان الدكتور رفيق حبيب المفكر المسيحى ونائب رئيس حزب الحرية والعدالة، يؤكد أن الانتخابات البرلمانية المصرية فى عهد «مرسى» هى أول انتخابات برلمانية نزيهة فى التاريخ المصرى الحديث، ومعها شكل الشعب أول برلمان يعبر عنه بعد الثورة، التزمت نخبة رجال الكنيسة ومن نراهم دوماً على يمينها الصمت والاقتراب من القبول، أما النخبة غير المرضى عنها من الكنيسة ومن يرابضون على يسارها من أهل الرأى والخبرة والاجتهاد فقد رصدوا بغضب حالة الاصطفاف على أساس الهوية الدينية فى طوابير الانتخابات..

منذ تلك الفترة باتت هناك فى الأفق السياسى تقسيمات نوعية للنخب المسيحية التى تمتلك فرص البوح والقول، بين من تحل له بركة الطاعة وهباتها التى تتيح له الحديث باسم الكاتدرائية «ثم تنفى الكنيسة فيما بعد حقهم لو أخطأوا أو تمادوا خروجاً عن مواقفها» ليحتلوا موقعهم يمين الكنيسة الحميم باعتبارهم الجليس الطيب المهاود، وعلى مقربة منهم بحذرمن يمثل نخبة أخرى قريبة من اليمين دون إعلان مباشر، ينتسب لعضويتها من يقول ويكتب ويُنظَّر عبر منابر الخطابة بميزان حساس بما لا يُغضب أهل اليمين للحفاظ على موقعه مرضى عليه من الكنيسة مهما تصاعدت الأحداث التى ينبغى أن يتفاعل معها «ضد / مع» فيذهب بسرعة إلى مناطق رمادية وبذكاء بهلوانى وامتلاك ناصية التعبيرات الفوقية التى تستغلق متاريسها على البسطاء فيبقى أهالينا فى مناطق بادعاء الفهم، وعليه تمنح تلك النخبة صك الاعتماد الجماهيرى وحق الوجود فى الوسط الفكرى المسيحى مع ميزة التمتع بالرضا الحكومى، وهى النخبة التى ترشح منها الكنيسة لعضوية البرلمان أو المناصب الحكومية عندما يُطلب منها ذلك «يحدث ذلك عند رضا النظام فى كل العصور عن الكنيسة ورجالهافقط»..

والفصيل الثالث للنخب المسيحية هم من جمعوا بين رضا الكنيسة المباشر، وأيضاً دعم النظام والسلطات الحاكمة المباشر، وقد عانى أصحاب الرؤى الإصلاحية من وجودهم الاخطبوطى، فكانوا ــ على سبيل المثال ــ فى الزمن المباركى هم أعضاء فى لجنة السياسات التى تمثل رأس الحزب الوطنى الحاكم، وكانوا على رأس كل موائد الحوار جاهزين لقمع كل صاحب فكر إصلاحى.. أما النوع الرابع فى التقسيمة النخبوية لأقباط بلدنا، فيأتى فى صدارتها مجموعة التيار العلمانى «العلمانيون فى الكنيسة المصرية هم غير أصحاب الرتبالكهنوتية»، وهم كانوا النخبة الأروع والأهم حتى تم التفاوض مع قيادتهم للانضمام لنخب الموالاة، فكان الإجهاز على الفكرة والأمل، وللحديث بقية حول دور ذلك التيار الذى غاب!!