رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الميديا.. واسطة نقل الخبر!


يقينًا.. سنتوافق على أن كلمة «ميديا» تعنى «واسطة»، كما كان الحمام الزاجل بمثابة وساطة بين البشر وقادة الحروب فى الزمان الغابر، فالواسطة فى كل زمان ومكان لابد وأن يكون أمينًا على ما يحمل من معلومات ومستندات وخرائط، بفهمه «طبوغرافيا» الأماكن، والطبوغرافيا هى علم تضاريس الأرض واتجاهاتها، مع علمنا الكامل بأن الحمام الزاجل ليس إلا وسيلة نقل وواسطة محايدة، لايتدخل بالرأى أو المشورة فيما يحمل من رسائل...

... على النقيض من مستحدثات الميديا الجديدة فى عالمنا المعاصر، الذى يجب أن يكون على دراية وفهم واسع بطبائع البشر وتركيبة مجتمعاتهم، لتكون الوساطة نافعة وأمينة ومؤدية للمهمة التى خلقت من أجلها. وبطبيعة الحال، سنتفق مرة أخرى على أن «الميديا» تشتمل على أشياء كثيرة كالإذاعة والتليفزيون والتليفون.. وصولاً إلى العالم الجديد عالم صفحات التواصل الاجتماعى الشهير فى منطقتنا العربية باسم «فيس بوك». زمااان.. كان الناس فى بلادى يرتبطون ارتباطًا وثيقًا بالإذاعة «الراديو»، وكان هو همزة الوصل بينهم وبين العالم الداخلى والخارجى، يتفاعلون معه صوتيًا أصدق التفاعل بقوة وجمال وتأثير «الصوت» المنطلق من داخل الصندوق العجيب، وقوة الإحساس بهدوء أو انفعال من يجلس خلف الميكروفون! ولا عجب إذ قال المرحوم الفنان سعيد صالح فى مدرسة المشاغبين: «إن المذيع «وقف» وصرخ بأعلى صوته: مُرسى الزناتى اتهزم يارجالة.. بالإنجليزى»، وحين سُئِل كيف عرف أن المذيع «قام ووقف» أجاب بأن الصندوق انتابته هِزة تدل على قيام المذيع وانتفاضه؛ وصرح بالعبارة الشهيرة! وهذا يدل على قوة التأثير التى يجب أن يحملها الينا هذا «الصوت»، مابالكم ونحن نجلس لنشاهد التليفزيون المفترض أنه يعتمد اعتمادًا كليًا على عنصرالإبهار فى نقل «الصورة» وليس بمشاهدة جمال «كرافت» السيد مقدم البرنامج طيلة ساعات منذ منتصف الليل وحتى مطلع الفجر، دون أن نشاهد «صورة واحدة» تعكس لنا ما يحاول أن يشرحه لنا.. ونتساءل ونحن فى ذهول: ما الفرق إذن بين الصوت والصورة.. أى بين الراديو والتليفزيون؟ هذه المفارقة الغريبة جعلتنى ألجأ إلى المقارنة بين الميديا أمس واليوم، ومفهومى أن من يجلس أمام الكاميرا ليتولى تقديم نشرة الأخبار أو التصدى لتقديم برنامج أيًا كانت مضامينه، لابد أن يكون قد جاء إلى هذا المقعد بعد اجتياز عدة اختبارات عسيرة فى اللغة العربية «نحوها وصرفها» بدلاً مما نسمعه من الغالبية الذين يرفعون المنصوب وينصبون المرفوع، ولا يعترفون بحروف الجر التى تستطيع أن تجُر قارة بأكملها من خلفها، ناهيك عن الحروف الضائعة والمتآكلة والمستبدلة بحروف ٍ أخرى ليست ضمن الثمانية وعشرين حرفـًا التى تشكِّل مجمل حروف اللغة العربية العصماء. وكنا نأمل الخير فى الكتاب الصحفيين الذين تحولوا بقدرة قادر إلى مقدمى برامج ومذيعين، فلم ينتبهوا إلى الفارق الجوهرى بين الورق المكتوب والصورة التليفزيونية، فطلعوا علينا الواحد تلو الآخر طلعة عزيز مقتدر ليقرأوا عليناـ فى تكرارٍ مُمل ـ

ما كتبوه على الورق بلا أدنى دعم بـ «صورة» أو الانتقال إلى موقع «حدث»، يحقق الاختلاف والانبهار للمشاهد المسكين الذى يتحمل مشاهدة «السِّحنة» البهيـَّـة على مدى ساعات، وكان من الأجدر بالمشاهد أن يقرأ هذه الكلمات طازجة على الورق، أفضل من هذا الهراء وممارسة التعذيب الملوًَّن على الشاشة الفضية!!، وقد تحول الكثير منهم إلى مراكز قوى لجثومهم على أنفاسنا لسنوات؛ ويمارسون البث فى عقولنا لما يربدونه، دونما رقيب أو حسيب!ودعونى أستخدم الكلمة التى شابت على ظهر الزمان: لقد اختلط الحابل بالنابل.. فلم نعُد نشعر بالفارق بين «زيد» و«عبيد»، فصاروا جميعهم ـ وإن اختلفت الوجوه ـ

نمطًا متكررًا ساذجًا يضحك على المشاهدين؛ ولا يقدمون شيئًا ذا بال يشد المشاهد إلى الجلوس أمام الشاشة، فيضطر إلى استخدام وسائط الميديا المتوافرة، بالتحول إلى قنوات أخرى تعطيه الإشباع المطلوب، وليشعر أنه يعيش عصر الميديا الحديثة بكل تطوراتها التقنية المواكبة لمقتضيات العصر، وليحصل على الخبر الصحيح مدعومًا بالصورة وكأنه فى مكان الحدث، وليكون التفاعل مؤتيًا ثمرته فى اندماج المشاهد مع الأحداث لحظة بلحظة، وهذه هى الرسالة الحقيقية المرجوَّة من صناعة الميديا الحديثة، لا انتظارًا لوصول الحمام الزاجل بالخبر اليقين من عند «جهينة»، فالعالم أصبح قرية صغيرة أطوف فيها بكل الحرية بنقرة «مفتاح»، والأمانة تقتضى اقتصار الإعلامى على نقل الخبر دون أن ينصب نفسه قاضيًا يحاكم من حوله، فالحياد هو ألف باء الإعلام المنضبط. أليس كذلك؟!