رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشاى والناس!


... يتسلل إلى عقلى. ينظم مثل مايسترو قدير كل خلاياه وأفكاره فأسمعها تصدح متناغمة. عام 1968 طلب منى والدى أن أكتب حواراً لفيلمه «عائلات محترمة». حين أنهيته قرأه ونظر إلىَّ مغتاظاً مذهولاً: «إيه ده؟! مافيش مشهد واحد من غير شاى؟! أول البطل مايشوف البطلة يقول لها: تعالى نشرب شاي! البطل يمرض، يسافر، أمه تموت، يشرب شاى! ده كله تكلفة فيلم خام وتصوير»! دفع بالورق إلىَّ قائلاً: «خذ. نشف الحوار ده. مش عاوز ألقى فيه كباية شاى واحدة»! نشفت الحوار لكن لم يتوقف غرامى بالشاى. وكنت قد قرأت قصة ليوسف إدريس يصف فيها اثنين من الفلاحين فى غيط، يضايف أحدهما الآخر بكوب شاى ويقول له وهو يصبه: «عارف بزبوز الإبريق ده؟ نزل منه بقرتان وحمار»! أى أنه باع البهايم وأنفق ثمنها على الشاى. حينذاك قلت لنفسى إننى مصرى أصيل! ثم قرأت مقالاً مطولاً للكاتب العالمى جورج أوريل صاحب رواية « العالم 1984» يتغزل فيه بذلك السائل السحرى ويمجد طرق إعداده، فأدركت أننى أنتقل من المحلية إلى العالمية! عام 1972 بعد وصول السادات للحكم رحلت مع والدى من مصر. ركبنا باخرة من الإسكندرية قاصدين بيروت. كان البوفيه مفتوحاً على سطح الباخرة فسألت والدى: «ألن نشرب الشاى؟» قال لى: «والله ما فى جيبى ولا مليم»! هكذا ظللنا جالسين على سطح المركب نتطلع إلى البوفيه كاليتامى إلى أن أطفأ أنواره وأغلق أبوابه فنهض والدى بحزم قائلاً: «أخيراً قفل! ياللا بينا بقى نشرب شاى»! قلت: «إزاى؟ البوفيه قفل؟». قال «ما أنا كنت منتظر يقفل»! واتجه إلى قبطان الباخرة وعاتبه قائلا: «يا سيدى رحنا نشرب شاى لقينا البوفيه قافل»! فأولم لنا الرجل وليمة لعلعت فيها أكواب الشاى! من بيروت سافرت إلى روسيا للدراسة وهناك فوجئت بأن بواكى الشاى فى المحلات مكتوب عليها «مفيد لعضلة القلب»! فأيقنت أننى إضافة لمصريتى وعالميتى أتمتع بإدراك علمى وناديت بفصل الشاى عن الدولة! هناك أيضاً عرفت أن شعوب آسيا الوسطى المحيطة بروسيا تطلق على الشاى «نبيذ الشرق»، فعلمت أننى من مدمنى النبيذ! ولقد دافعت عن صداقتى لذلك العشب فى أدق المواقف حتى عندما بكت زوجتى الروسية وهى تشكونى بدموعها لأمها: «يا ماما هذا الرجل لا يكف عن طلب الشاى. أنا أصبحت قهوجية فى البيت»! فهدأتها أمها: «احمدى ربنا أنه لا يطلب فودكا»!عندما عدت إلى مصر صرت أضع فى بيوت أصدقائى المقربين بواكى الشاى الذى أفضله، فإذا ذهبت لزيارتهم وجدته. ذات يوم كنت أزور صديقى حسام حبشى وبحثنا عن الباكو الخاص بى فى المطبخ فلم نعثر عليه، وكانت ماجدة زوجته فى أمريكا فاتصل بها حسام يسألها: «يا ماجدة فين باكو الشاى بتاع أحمد؟!» فجاءنا صوتها بالدهشة من كاليفورنيا: «بتتصلوا بأمريكا وتصحونى من النوم عشان باكو شاى بجنيه ونصف الجنيه؟! بالمرة بقى اتصلوا بالكرملين». سألها حسام يشاكسها: «معاك نمرته؟»! مع ذلك لم يخمدحماسنا فظللنا نفتش حتى وجدنا الباكو مختبئاً وراء علبة فلفل، فهتفت به «يا سلام على جمالك».

■ أديب