رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قدسية الموت.. والتمزق الاجتماعى


قيل فى التراث: إن النبى صلى الله عليه وسلم مرَّت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودى، فقال: «أليست نفسا»؟ هذا ليس معناه أنه وقف تعظيما لها ولا أنه قام لها تحية واحتراما. وإنما وقف تعظيما للملائكة الذين معها. فليكن لنا فى هذا الموقف العظيم عظة وعبرة، تقف فى وجه الشامتين فيمن يخطفهم الموت من دنياهم، بحجة أنهم كانوا يناصبونهم العداء أو المنافسة فى مضمار العقيدة السياسية أو المنصب أو المال والشهرة والجاه، رغم أن جوهر الدين فى شتى المعتقدات يدعو إلى عدم الانشغال بعيوب الناس بسوء النظر إليهم أو الشماتة فيهم حين يداهمهم قطار الموت، رغم أن الموت هو الحقيقة الوحيدة فى دنيانا...

... بل ويقولون إن الموت هو «كمالة» للحياة!، وفى هذا المقام يقول الشاعر: فقل للشامتين بنا أفيقوا.. سيلقى الشامتون ما لقينا!!

وأخشى ما أخشاه أن يكون الخرق قد اتسع على الراتق فى ثوب المجتمع المصرى والعربى، الذى تحول بفعل صفحات المغرضين على مواقع ما يسمى بـ«التواصل الاجتماعى» إلى مناحة كبرى تحتوى على الكم الكبير من بذاءات الشماتة والتشفى فى كل من يودع دنيانا من أعلام الفكر والأدب والصحافة والسياسة، لمجرد أنهم كانوا يعتبرونهم من المناهضين لأفكارهم ومعتقداتهم السوداوية التى تريد إشعال الحرائق فى الأخضر واليابس فى جنبات الوطن، ويحيلونها إلى صفحات التمزق الاجتماعى الذى ينشدونه بتلك العدوانية غير المبررة، ولا تجيء إلا تعبيرًا صارخًا عن مكنون ما يعتمل فى صدورهم وقلوبهم من انحياز للعمالة، التى تعمل لصالح أجندات ممنهجة خطط لها من يتربصون بنا، ويحيكون خيوط المؤامرات القميئة فى ليلهم المظلم.وهؤلاء هم من نطلق عليهم لقب «خوارج العصر» الذين يدينون بالطاعة العمياء لمنظريهم وراسمى مناهجهم وخططهم، وهم البعيدون كل البعد عن منهج الدين الحنيف الذى يعطى للموت جلاله وقدسيته؛ لأنه من صنع الله القادر الذى يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير. وليت هؤلاء توقفوا عند حدود الشماتة والتشفى؛ لهان الأمر بعض الشىء، بل ذهبوا إلى أبعد خطوات الغل والحقد بالتمثيل بجثث القتلى ممن يخالفونهم فى التوجه والمعتقد؛ سواء السياسى أو الدينى، على نحو ما بثته الشاشات عبر النشرات الإخبارية وشاهدنا هذه المواقف المشينة فى الكثير من بلادنا العربية التى اشتعلت فيها ثورات الفوران الشعبى ضد الحكام والسلطة، فيما يسمى بـ«ثورات الربيع العربى» ـ خاصة فى الجمهورية العربية الليبية ـ حين قامت شراذم الجهلاء ممن تشدقوا بالوطنية ومنحوا أنفسهم زورًا وبهتانًا لقب الثوار، بالتمثيل بجثمان من كان على رأس دولتهم التى انهارت بفعل التدخلات الأجنبية، غير الحريصة على مصالح البلاد والعباد، وقاموا بسحله فى الشوارع فى مشهد يندى له الجبين الإنسانى، غير عابئين بجلال الموت وقدسيته، وساقوا دولتهم إلى الخراب والدمار ولم تقم لها قائمة إلى ساعتنا هذه، الأمر الذى نستهجنه ونعتبره تصرفًا دخيلاً على المجتمعين العربى والمصرى، حقيقة لم نره بكل هذه الوحشية فى أحلك عصور الاحتلال الأجنبى وعنفوان السيادة الخارجية على المجتمعات العربية التى ابتعدت عن صميم وجوهر ممارسة السلوكيات الوطنية الحقيقية ؛ فأصبحت سهلة الانقياد والتوجيه حتى وصلت بنا وبهم إلى نكباتٍ متوالية كانوا وكنَّا فى غنى عنها، للتأكيد على مواصلة السير قدمًا نحو المستقبل الزاهر لكل ربوع الوطن العربى. ولم تقتصر تلك المشاهدات على عالم الكبار منا، بل كانت على مرأى ومسمع الأطفال الصغار من براعم المستقبل، الذين رأوا بأم أعينهم كيف تحولت رءوس القتلى إلى كرات تتقاذفها الأقدام ، فهانت الأرواح عليهم ولم تعدو فى أذهانهم سوى مجرد لعبة لاجلال ولا قدسية لها .. فيالها من كارثة تدمى القلوب والأرواح، فهذه توطئة لما سنراه فى المستقبل من هؤلاء النشء الذين تربوا واعتادوا على رؤية إراقة الدماء الذكية على أسفلت الشوارع والطرقات، لنجنى ثمارًا مريرة كالحنظل جراء هذه الوحشية بلا ضابطٍ ولا رادع، وخالية من أى نوازع إنسانية أو معتقد دينى. ويبقى الدور والمسئولية على علماء النفس والاجتماع، ليدرسوا ويحللوا سر هذا الانقلاب المفاجيء فى تركيبة المجتمع المصرى والعربي، والوقوف على الأسباب الجوهرية فيما أصابه منخلل نفسى وعضوى وسلوكى، للوصول إلى وضع الحلول الناجعة لهذه الأمراض المجتمعية التى تفشت فى أوصاله، وتسارع به إلى الضمور والاضمحلال، بعد أن كانت المجتمعات المصرية والعربية هى التى تقود العالم وتنير له دياجير الظلام فى عصور قارات العالم المظلمة.

وهل نحيل هذه الظواهر اللاإنسانية واللادينية إلى من أسسوا ومنهجوا لهذا النمط الدخيل ؛ ليكون تكئة لهم فى تحقيق مآربهم ومصالحهم فى المنطقة العربية بأسرها؟ وهل هناك أسباب أخرى تقف وراء هذه السلوكيات والجرائم المرفوضة من كل الأعراف والقوانين؟ إلى متى سنظل نـُنـظـِّـرْ لتلك المشكلات المجتمعية ونشكو منها، دون بلوغ الحلول الجذرية وتفعيلها، للقضاء عليها نهائيًا ووأدها وهى فى مهدها منعًا للتفشى؟ ولهؤلاء الشامتين نقول: اذكروا محاسن موتاكم!