رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المفاهيم الحديثة للحريات «١ »


أعود إلى مفهوم الحرية الصحيح كما ورد فى المعاجم الحديثة، فالحرية معناها فك القيود للعبور إلى طريق مفتوح ومتحرر ،وعلى أساس هذا المعنى أقيمت الاسواق الحرة، حيث لا رسوم ولا ضرائب بهدف التمكين لعمل إرادى لاتحكمه قيود أو تعليمات فوقية...

...ورد تعريف الحريات فى المفاهيم العربية فى أربعة معان على النحو التالى:- ١-المعنى الأخلاقى للحرية « عبد حر» ويقصد به عبد كريم.. ٢- المعنى القانونى للحرية « تحرير الرقبة ».. ٣- المعنى الاجتماعى للحرية « المعفى من التزام دفع الضريبة».. ٤- معنى المفهوم الصوفى «التحرير الكامل من رق الكائنات وقطع العلاقات مع الغير، أما معنى الحرية فى المفهوم الإنسانى فهى علاقة الإنسان بالإنسان، كما يرى الفلاسفة معنى آخر للحرية وهو أنها ترتبط بعلاقة العقل بالنفس لذات الشخص، ومن هذا المنطلق الثقافى للحريات هى التى تمكن العقل من أن يتغلب على نوازع النفس فيغير الميول الطبيعية، فيرتقى بها دونما ضغط أو إكراه من أى مؤثرات خارجية

ففى رأى أبو حامد الغزالى أن العقل يمكنه أن يغير ميول النفس ويستدل بالحيوانات القادرة على تغيير السلوك، فكيف لا يقدر الإنسان المميز والممتلك لإرادته ؟ ويضيف الغزالى بالقول إن الإنسان يمتلك إرادة تميل إلى قبول إرادة الخالق ومع ذلك فالمجتمع الشرق أوسطى وتحديدا العربى عاش مراحل البداوة يخضع لقواعد لم يضعها مشرع، بل لم يكن للدولة دخل فيها، وهى مانسميه مرحلة الخضوع لقواعد العشيرة سواء كانت فى صورة الجماعة أو الأسرة أو القبيلة أو أبناء الحرفة أو المهنة، ومنهج البداوة هذا يلزم الفرد أو العائلة بأن تخضع لكبيرها أو شيخ القبيلة، فالفرد خاضع هو وأسرته الصغيرة لاحكام كبيرها أو زعيم القبيلة أو العشيرة التى ينتمون إليها.

وارتبط الالتزام بمفهوم روحى أطلق عليه «التقوى» ،فالإنسان ويقصد به الرجل حتى هذه المرحلة «أى الرجل التقى» هو من يتحرر من ثقل الجسد وميوله المستعبدة للمادة ،وبذلك يصبح حرا إلى حد كبير ،وبقدر سموه ينال الاحترام والتقدير والإجلال من عشيرته أو قبيلته وفقا لدرجة تصوفه التى ظهرت بداية فى البيئة الحضرية كرد فعل على الأوضاع الاجتماعية المتدهورة فىالأنظمة الحاكمة،كما يقابل التصوف فى البيئة الحضرية «الحب العذرى» فى البيئة البدوية.

ومع التقدم اتسع مفهوم الحريات فى القرن التاسع عشر باتساع الدولة وصولا إلى المعنى الليبرالى للحرية ،والذى بدوره مر فى مراحل أربعة على النحو التالى: ١-مرحلة التكوين فى مقابل تعبير الليبرالية لكونه تعبيراً ومفهوماً غرباً يقوم على الاعتماد على الذات البشرية.

٢- مرحلة الاكتمال، فمع عصرنة علم الاقتصاد وعلم السياسة والفردية العاملة والتى تمتلك وتحوز وتتميز بقدر حجم حيازتها..

3- مرحلة الاستقلال حيث انقلبت اللبيرالية على الديمقراطية بعد تجربة الثورةالفرنسية وعرف المصطلح بالثورة الخلاقة .. ٤- مرحلة التقوقع والانكفاء على التمييز العنصرى أو الدينى وظهور مفهوم المغايرة والانكفاء. أما المفهوم الحديث للحرية فهو إتاحة الفرد أن يتمتع بحقوقه الشخصية،فهو فى ذاته يمتلك حريته دون استعباد من أحد أيا كان حتى أطلقوا تعبير الأحرار فى أرض الحريات، ثم بدأت المجتمعات تضع قواعد حماية الحريات الفردية فى إطار حرية المجتمع كله ،وسميت هذه القواعد بحماية الحرية الشخصية فى وطن الحريات،وعليه فقد وضع المشرعون القوانين الحامية للحريات الفردية والجماعية الشخصية والسياسية، وجميعها تحميها الدساتير الوضعية التى تضعها مجالس نيابية يفترض أن أعضاء هذه المجالس هم من الشعب، ونائبيهم توسموا فيهم روح الشراكة ورفض القيود غير المبررة ،وأنهم يمثلون الشعب ،بل كانوا منذ أيام من هؤلاء الذين يمثلونهم ،وفى مدى السنوات التى هى عمر المجلس سيعود كل عضو إلى قاعدته،حيث يحاكم منهم ،وتصدر الأحكام فى صورة ورقة انتخابية جديدة تشهد لهم أو عليهم.

والحرية تمتد فاعليتها إلى صوت الأعضاء الذين أوكلهم شعبهم مهمة كسر القيود الحديدية التى صنعتها السلطات الحاكمة وليست قوى خارجية هى التى أذلت الشعوب بدعوى كفالتهم للشعوب المغلوبة على أمرهم ،فاحتلوا شعوبا ،واستوردوا قوانين بلاد أخرى عفى عليها الدهر ،وأسقطتها شعوبهم ،فإذ بهم يحاولون بث الروح فيها لحكم الشعب وفض الشغب . أما ما يؤسف له أن الحكومات المحلية بعد رحيل الاستعمار الذى اصبح حتى اللفظ مرفوضاً من شعوبهم فحاولوا تغيير اللفظ والإبقاء على المضمون، كالولاية على قصر، أو دعوى حاجة تلك المجتمعات لفترة طويلة حتى تفيق وتتخلص من عقدة الاضطهاد الاستعمارى، ناسين الأجيال المثقفة وتأثيرها على الآباء ووسائل التواصل التى جعلت العالم كله كالقرية الصغيرة، حتى ما يحدث فى أقصى بلدان العالم لا تمضى لحظات حتى تكون الأحداث على قارعة الطريق،أما الأمر الآخر فهو محاولة تغيير الترتيب الهرمى حتى لا تتحكم القلة فى القاعدة بدعوى أن القمه هى الصفوة المختارة ،وأنها الأقرب إلى فهم الواقع والمستقبل، وإدراك القدرات والامكانات ،وهم الأكثر دراية بصالح الوطن ،وهنا يبدأالصراع الحقيقى عندما تجامل السلطة النيابية السلطة التنفيذية ،فتتحول السلطة الحاكمة إلى محاولة إرضاء الصفوة النيابية بالتجاوب مع بعض مطالبهم وبدورهم يقدمون بعضا مما استطاعوه لكسب أصحاب الأصوات العالية والقادرين على إقناع البسطاء حتى يستمروا فى تأييدهم الشعبى لمرشحيهم.

وهنا أعود إلى مفهوم الحرية الصحيح كما ورد فى المعاجم الحديثة، فالحرية معناها فك القيود للعبور إلى طريق مفتوح ومتحرر ،وعلى أساس هذا المعنى أقيمت الاسواق الحرة، حيث لا رسوم ولا ضرائب بهدف التمكين لعمل إرادى لاتحكمه قيود أو تعليمات فوقية، كما أن امتلاك الحريات الشخصية ينفى وجود القيود، أو يحطمها، حتى التخلص من أى عبودية أو ما يشابهها حتى بأى نوع من الإزعاج، ولذا أطلق الإنجليز تعبير التخلص من الازعاج، أو العبودية المزعجة، والانتقال إلى مفهوم الحق فى حياة نبيلة الفهم، تمتلك العزة والحب واحترام الخصوصية، ومد يد المساعدة لطالبيها، والتمسك بالصدق والصداقة فى عالم حر فى التعبير والعبور بلا ثمن يدفع، وفى ذلك يعبر الشعب الإنجليزى عن معنى حرية الكلام فى محبة وحرية الفكر وكرامة الإنسان - كل إنسان - وقد وضع الأمريكان عام ١٨٣٦ هذا التعبير « الحرية حق مدنى لا منحة من سلطة»، وبناء على هذا التعبير ظهرت المشروعات الحرة ١٨٩٠، ومن قبلها التجارة الحرة١٨٢٣، وكل هذا لاحق للإرادة الحرة فى ١٦٩٠ ،ولا يزال الطريق مفتوحا أمام الشعوب التى تعرف معنى الحرية وتمارسها، بل تعيشها.