رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن «الحياد» أتحدث!


ما أحوجنا اليوم إلى التأمل والتمحيص فى بعض السلوكيات السلبية التى نرصدها فى تركيبة مجتمعنا، وكلى أمل أن تكون هذه الظواهر طارئة فى القشرة الخارجية ـ فقط ـ للُحمة هذا المجتمع الإنسانى، ولا تمس اللُّب الأصيل لأعرق المجتمعات البشرية على وجه الأرض.

وليتضح المقصد.. تعالوا بنا نتخيل حدوث مشكلة ما فى الشارع المصرى المكتظ بما لا يتحمله بشر من معوقات، وليكن على سبيل المثال حدوث تلاسن بين اثنين من قائدى السيارات على أحقية المرور أولاً، لتشاهد العجب العجاب، فينشطر المارة والباعة وأصحاب المحلات إلى ثلاث فئات: فئة تناصر وفئة تعارض، و... فئة لا تعرف لها لونًا أو طعمًا أو اتجاهًا!! فأما المناصرون فأهلاً وسهلاً، وأما المعارضون فلهم تعظيم سلام لوضوح رأيهم ورؤيتهم، أما الأدهى والأشد خطرًا، تلك الفئة التى تنقسم إلى قسمين أيضا : فئة تقف للفُرجة والتسلية، وفئة تنتظر إلى من ستميل الكفة فى الصراع، وهنا تكمن كل الخطورة فى هؤلاء، لأنهم فتيل اشتعال المشكلة واتساعها وربما التوصيل «دليفرى» إلى قسم الشرطة!!

ترى.. هل من الجائز أن نطلق على هذه الفئة الثالثة لقب «فئة الحياد»؟و«الحياد» لفظ فى اللغة يدل على عدم الميْل إلى أى طرف من أَطراف الخُصومة، ولكن يبقى السؤال الجوهرى الذى دفعنى إلى تناول هذا الموضوع الحيوى: هل يجوز هذا الحياد السلبى فى المواقف الوطنية المصيرية ومنعطفاتها الدولية التى لاتقبل القسمة على اثنين، والتى يكون فيها الوطن بين طرفى رحى قوى داخلية عميلة ؛ وقوى خارجية متربصة؟ هنا سيأخذ اللفظ دلالة أخرى ويتشح بعباءة سوداء كئيبة ؛ ليصير حيادًا سلبيًا متآمرًا موشومًا بالخيانة والتقاعس عن نصرة الوطن فى القضايا الحتمية التى لايختلف عليها الشرفاء والأمناء على المصلحة العامة والمستقبل ؛ لذا تقع أعيننا كثيرا مؤخرا على مقولة «الحياد خيانة» يرددها من يستطيعون اتخاذ قراراتهم بحزم وحسم ليعيبوا بها على المتخاذلين. ولعلنا نتذكر كيف تسرب هذا اللفظ إلى عالم السياسة بعد الحربين العالميتين،واتخذ نهجًا يختلف عن معناه المتداول والمتعارف عليه لغويًا، فأَضيف إليه تذييل ارتبطت به مجموعة من الدول، ليصبح مايطلق عليه السياسيون لفظ الحياد الإيجابى وعدم الانحياز، وهى النظرية التى اعتنقها الزعماء الذين نادوا بهذا المبدأ فى مؤتمر باندونج فى الخمسينيات من القرن الماضى، ولم يتوصلوا إلى هذا إلا بعد أن ذاق العالم ويلات الحروب، ولتصير ظاهرة من ظواهر السياسة العالمية للدول التى رفضت نير الاستعمار العسكرى والاقتصادى وتلافيًا لعدم الدخول مع الدول الكبرى فى ممارسة ما كان يسمى آنذاك بـ«الحرب الباردة». وصحيح أن البون شاسع إذا ما أردنا عقد مقارنة بين حياد الدول وحياد الأفراد، ولكنى أردت التنبيه إلى ضرورة الاهتمام ببناء الشخصية المصرية القوية والسوية، لتكون صاحبة رأى وموقف منذ مرحلة الصبا والشباب، والتأكيد على أهمية وضوح الرؤى والرؤية فى المواقف التى يجتاز بها رحلة الحياة، وليفتح المجال للعقل الذى وهبه الله للإنسان ليكون دليله وغايته، ولا يترك النشء لغواية المضللين والمدعين للعبث بالأفكار والأهداف السامية، وهنا تأتى أهمية إدراج هذه الدراسات للشخصية المصرية ضمن مناهج التعليم فى كل المجالات، وليس بالضرورة أن يكون هذا فى مدرجات العلم بالمدارس والجامعات، بل تقوم به مراكز متخصصة يتم إلحاقها بالمصانع والمؤسسات الصناعية والتجارية، تعمل على إمداد العمال والتجار بالثقافة المجتمعية الخاضعة لتوجهات الدولة واستراتيجيتها العليا للوصول إلى أهدافها المرجوَّة.

وأصدقكم القول إنه إذا لم يتم مراعاة ومراقبة تطورات السلوكيات الفردية فى المجتمع وانعكاساتها السلبية عليه، ستكون النتائج غير حميدة وسيفرز هذا المجتمع أفرادًا هلاميين ليست لديهم ملكة فكرية تستطيع أن تدرك ما يدور فى أركان المجتمع، وبالتالى سيكونون فاقدى القدرة على أن يسهموا فى صنع إرهاصات المستقبل، فيصبحون فريسة سهلة لمن يقودهم إلى غياهب الأفكار المتطرفة وتسليم زمام أمورهم لمن يجعلهم فى صفوف كتائب خاملة خانعة ضمن جيوش الفئة الممارسة للحياد السلبى القهرى.

هلاً بدأنا منذ اللحظة رحلة البحث عن آليات فعالة تسهم فى بناء الشخصية المصرية صاحبة الرأى السديد، بعيدا عن الهلامية والحياد؟!