رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أخلاقنا


على جانبى شريط السكة الحديد ترى الفساد نفسه، ماثلاً أمامك يجرى مع سرعة القطار، فى تلك المبانى العشوائية التى ظهرت فى سنوات الانفلات الأمنى، لتظهر فى صورة أبراج هائلة وعمارات وقصور وفيللات جميلة، كلها على الأراضى الزراعية، ولا يعلم متى تزال تلك المبانى إلا الله...

... لا أعرف ما إذا كنت أفرح أم أحزن، فى كل مرة أزور فيها القاهرة أعود مكتئباً، حتى ولو حدث هناك ما يسعدنى على المستوى الشخصى.

المسافة بين محطة الجيزة، وميدان طلعت حرب، قطعتها عشرات المرات، فى تاكسى العاصمة الأبيض بالعداد، ولم يحدث لأن دفعت مبلغين متساويين، مرة خمسة عشر جنيهاً، ومرة خمسة وثلاثين جنيهاً، وفى كل مرة يبدأ السائق محاضرته معى بالضمير والأخلاق لأنى زميل له أنزل زبون فى منتصف الطريق.

فى البداية يبدأ السائق كلامه معى ليعرف لهجتى، وليعرف أننى صعيدى، وعندها يبدأ السير فى الشوارع البعيدة والمزدحمة، فأرده إلى الطريق المعروف، فيحملنى مسئولية الزحام والتأخير، ويكرر دائما «الحق علىَّ»، يقصد أنه كان يريد أن يسرع بى، ولكننى أريده أن يتأخر، ثم يتعمد أن يسير على يمين الطريق ليسأل الواقفين عن وجهتهم، ويحدث أن يضع معى راكباً او اثنين، ثم يكمل محاضرته عن القانون والأخلاق. الشوارع نظيفة فى منتصف البلد، قذره فى الأطراف، بل فى منتهى القذارة، كل شىء أصبح بعيداً عن رقابة الحكومة، ابتداء من سوق الكتب المزورة، حتى الملابس المعيبة، حتى الطعام الذى يضخ يومياً فى أمعائنا، لا رقيب ولا رقابة، ناهيك عن الأسعار الملتهبة، وفروق فى الأسعار للسلعة الواحدة من محال وسط البلد، إلى سوق العتبة.

فوضى المرور فى القاهرة تقوض كل شىء، وتعطى مؤشراً أننا دولة غير منضبطة سلوكياً، طالما يقف السائق حيثما أراد، دون رادع، فوضى الرصيف عندما تسير بقدميك، الصعوبة تكمن فى أنه لا يوجد رصيف واحد مستمر يمكن أن تسير عليه إلا فى الكبارى، وكل الشوارع إما تآكلت أرصفتها، أو تهدمت أو ارتفعت، وفوضى وقوف السيارت يطغى على حركة المشاة المساكين، وفوضى المقاهى والمحلات التى احتلت الأرصفة، فلا تستطيع مواصلة السير، فوضى عبور المشاة ميادين القاهرة الكبرى، أصبحت ملكاً للبائعة الجائلين، وهناك شوارع بأكملها لا تستطيع السير فيها من كثرة الباعة الجائلين، اللذين سرعان ما يحملون عربيتهم وبضاعتهم فور علمهم أن هناك حملة من المرافق تداهمهم، فيحملونها ويجرون إلى الشوارع الجانبية، وبعد أن تنتهى الحملة يعودون لأماكنهم، ويكثرون ليلاً، ويشكو أصحاب المحال مر الشكوى منهم لأنهم يقفون أمامهم ويسدون باب الرزق فى وجوههم، مع أنهم يدفعون ضرائب ويسددون مستحقات الحكومة، حتى لجأ بعضهم إلى استئجار باعة جائلين ليقفوا أمام محالهم، ويبيعوا بضاعتهم على عربات، بدلاً من بيعها فى المحل، طالما الزبون أصبح يعشق ما على العربات.

على جانبى شريط السكة الحديد ترى الفساد نفسه، ماثلاً أمامك يجرى مع سرعة القطار، فى تلك المبانى العشوائية التى ظهرت فى سنوات الانفلات الأمنى، لتظهر فى صورة أبراج هائلة وعمارات وقصور وفيللات جميلة، كلها على الأراضى الزراعية، ولا يعلم متى تزال تلك المبانى إلا الله.

حتى لو أزيلت، فهل تصلح تلك الأرض التى صارت كتلاً أسمنتية للبناء؟ إنها بالفعل كارثة، والكارثة الأعظم هى تلك الأراضى المجاورة التى أصبحت بائرة وتنتظر نفس المصير.

أما عن داخل أراضى هيئة السكة الحديد، فحدث عن الفساد بلا حرج، والذى يبدو ويطل من خلال تلك الكميات من حديد الخردة، والناتجة عن حوادث سابقة، ما زالت ملقاة فى العراء فى كل المحطات.