رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى الزهد الرهبانى


تميز آباء البرية المصرية – على مدى العصور – بالزهد «أو الفقر الاختيارى أو التجرد»، فلم يكن الزهد لديهم شعاراً بل حياة، ولم يكن عنواناً أو تعهداً بل منهجاً أختاروه لأنفسهم – بمحض إرادتهم – عندما أعطوا ظهرهم للعالم واعتزموا على حياة التجرد الحقيقى. فالذى اندمج منهم فى «الحب الإلهى» لم تعد تستهويه أضواء العالم ولا شهوة الرئاسات والمتكاءات الأولى حتى عندما كانوا يختارون أحد الرهبان لمسئولية الأسقفية كانوا يقيدونه بالسلاسل ويدخلون به إلى الكنيسة مقيداً – دون تصفيق الحاضرين أو لافتات التأييد – لأن المختار من الله «وليس من البشر» راهب وضع فى قلبه أن يخدم الجميع بزهد حقيقى وبصدق. وربما آخر منظر لهذا الموكب الجليل رأيناه فى مايو 1959 عندما اختاروا الراهب القمص مينا البراموسى المتوحد لأسقفية الإسكندرية، وقد علم بترشحه – من قِبل القائمقام فى ذلك الوقت – بعد غلق باب الترشيحات. دخل إلى الكنيسة فى بكاء حقيقى مقيداً من الأساقفة، وسجد أمام باب هيكل الكنيسة بانسحاق حقيقى وعندما طال به السجود قال له القائمقام: «يا أبونا مينا عاوزين نبتدى الصلاة»، وتمت رسامته باسم البابا كيرلس السادس.

ويذكر لنا كتاب «فردوس الآباء» الذى وضعه الأسقف بلاديوس عام 420م بناءً على تكليف من «لوساس» Lausus الذى كان من كبار حاشية الامبراطور ثيودوسيوس الثانى، والذى اهتم بنشر ترجمته العربية البابا شنودة الثالث بمجلة الكرازة: أن أحد الرهبان وصلته رسالة من أهله، جاء فيها: «والدك مريض جداً، وقد أشرف على حافة الموت فأِحضر لترث ممتلكاته!» فأرسل لهم رده قائلاً: «لقد متُ عن العالم، قبل أن يأتى الوقت الذى سيموت فيه أبى بزمن طويل، ومن غير المُستطاع أن يُصبح الميت وريثاً لمن لا يزال على قيد الحياة!».

كما ورد أيضاً، أن أحد شيوخ البرية قال: «إذا جلست فى مكان، ورأيت قوماً من المتكنزين وهم ينوءون بأحمالهم من المؤن، فلا تنظر إليهم، أما إذا صادفك إنسان مُعدم محروم، فتطلع إليه، وخفف من بؤسه وبؤسك، فقد يكون أكثر احتياجاً منك إلى رغيف الخبز الذى فى يدك!». كذلك ورد أيضاً عن أحد شيوخ البرية: «كيف يستطيع إنسان أن يُعّلم غيره، أو يعاونه فى أن يحصل من المعارف والفضائل ما قد عجز هو عن أن يحصله ويتمسك به!».

كما ورد أيضاً أنه حدث فى يوم ما أن زار أحد الأساقفة آباء البرية بالاسقيط، وذهب أخ منهم للقائه، ثم دعاه إلى قلايته، حيث قدم له خبزاً وملحاً، وراح يعتذر إليه قائلاً: «سامحنى يا أبى، فليس لدىّ ما أقدمه لك سوى هذا» فأجابه الأسقف فى لطف ورفق قائلاً: «أود حينما أحضر لزيارتكم فى العام القادم ألا أجد فى قلايتك حتى الخبز والملح!»، هذا معناه أن الأب الأسقف كان يحيا حياة زهد حقيقى دون تعهدات.

وفى عصرنا الحالى أعرف أحد الأصدقاء المهندسين المهاجرين بكندا، بعد أن استقر به المقام فى كندا لمدة عامين، اعتزم على حياة الرهبنة بصدق، فحزم حقيبته وتوجه إلى مطار تورنتو، ومن مطار القاهرة الدولى توجه مباشرة إلى أحد أديرة وادى النطرون. ومازال حتى هذه اللحظة – منذ عام 1977 – يحيا فى الفقر الاختيارى «أو الزهد». لذلك من العجب أن يتعهد أسقف على حياة الزهد!!

أستاذ بكلية الهندسة ــ جامعة الإسكندرية