رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ريش» وأنا


كان لزاماً علىَّ أن أسجل اسم «ريش» – وهو المقهى الثقافى والتنويرى الذى يقبع كالهرم الشامخ بشارع طلعت حرب – قبل أن أسجل اسمى، لأنه أكبر منى سناً ومقاماً، بل إنه أكثر نفعاً منى. فهذا المقهى – الذى على غرار المقاهى الفرنسية الثقافية– أنشئ فى عام 1908، وأنا دخلت عالم البشر الأحياء عام 1950 «فى 14 مايو». من هنا فإنه تجاوز من العمر 107 أعوام مليئة بالأحداث والإنجازات واللقاءات، وأنا أحاول أن أفعل شيئاً نافعاً للوطن فى مجال العلم والثقافة والتاريخ.

بدأت معرفتى بمقهى «ريش» مع أول التسعينيات عندما كنت عضواً بلجنة النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، فى ذلك الوقت كانت اجتماعاتنا الشهرية بمقر الجامعة التاريخى بميدان التحرير تحت رئاسة طيب الذكر «مارك لينز» مدير دار نشر الجامعة، تمثل لقاءً ثقافياً حقيقياً فيه نستعرض ونناقش بعض الكتب التى ستقوم دار النشر بنشرها من خلال استعراض تقارير فحص الكتب، وكان يُسند إلىّ الكتب الخاصة بالكنيسة القبطية وبعض الأحيان كتب تاريخية وأثرية. وبعد المناقشة الجادة كنا ننطلق إلى مقهى «ريش» حيث يكون فى استقبالنا الحارس الثقافى الأمين والرجل الصارم فى المحافظة على تقاليد المقهى الأستاذ مجدى عبدالملاك ميخائيل الذى ودعه المثقفون والمبدعون والكُتّاب يوم السبت 2 مايو 2015، فكنا نقضى بعض الوقت فى حديث ثقافى شيق وسط مناخ تاريحى مُذهل. هذا المكان يضم سرداباً كان يتمكن من خلاله ثوار 1919 الهروب من بطش الإنجليز، كما يضم الماكينة التى كان يستخدمها الثوار فى طباعة بياناتهم الوطنية. كما أن المكان يضم الركن الذى كانت تجلس فيه سيدة الغناء العربى وكوكب الشرق السيدة أم كلثوم، والمكان الذى كان يجلس فيه البكباشى جمال عبدالناصر لتناول فنجان قهوة الصباح، بالإضافة إلى مكان اجتماع الأستاذ نجيب محفوظ مع الحرافيش، وكثير من الأدباء والكُتاب والفنانين ورجال السياسة والإعلام، فى مناقشات جادة من أجل مصر بل ومن أجل إعلاء مصلحة الوطن، ذلك التعبير النبيل الذى يُستخدم حالياً عمال على بطال دون وعى حقيقى للكلمة. وبعد ذلك كنت أستغل فرصة قدوم صديق مصرى أو أجنبى من الخارج، فنعرج سوياً على المقهى فى ذلك المكان المُفعم بالأحداث الوطنية – خلال جميع الثورات التى مرت على مصر– وأيضاً المعروضات الثقافية والفنية التى تملأ كل شبر فى المقهى. وبعد تناول الشاى والقهوة أو تناول وجبة طعام شهية، نغادر المكان وقد امتلأت نفوسنا حباً زائداً نحو مصرنا العزيزة. وقبل أن نغادر المقهى نعرج على مكتب الأستاذ مجدى الذى كان يقع بجوار باب الخروج دون أن يحيط نفسه بهالة من التقديس، ونقدم له الشكر على محافظته على هذا المكان الذى يتحدث عن تاريخ مصر المضىء بشموع لن تنطفئ.

الآن رحل الأستاذ مجدى – ولكن المثقف لا يموت – فماذا ستفعل الدولة ووزارة الثقافة ووزارة الآثار بهذا الحصن التاريخى؟ لابد أن تتشكل لجنة على مستوى عالٍ من المثقفين وعلى رأسهم الأستاذ جمال الغيطانى والأستاذ نبيل عبدالفتاح والأستاذ أحمد الجمال وغيرهم لإدارة هذا المقهى بنفس السياسة التى كان يُدار بها منذ عام 1908. الله يرحمك يا أستاذ مجدى، أما «ريش» يعيش يعيش يعيش.