رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رحيل حكيم العرب


كفانا أغانى بلا مضمون، وشعارات بلا عمل ، وصياح بلا حراك ، والخسائر تتراكم، والدماء تراق وكأنها لعنة أصابت المنطقة. ألا يخجلنا ونحن نسمع ونقرأ ونشاهد الحراك العلمى والطبي، وطرق حل المنازعات سلمياً، ونحن ما زلنا نتحدث عن المؤامرات الغربية، وهى لغة هزلية خائبة ، فبدل الإفاقة من الخيبة ، ومراجعة النفس قبل فوات الأوان.

عرفته فى لقاءين وجهاً لوجه، اللقاء الأول فى اجتماع عالمى كان هو الداعى والقائد والمحور، كان ذلك اللقاء فى فيينا، حيث دعا قادة روحيين من جميع الأديان العالمية، الديانات الإبراهيمية وسائر الديانات العالمية الأخرى، كان هو والعاهل النمساوى خُوَان كارلوس رائدا الفكر الذى تمركز حول السلام العالمى وكيف يسهم قادة ورموز الديانات المتعددة فى الدعوة لنبذ الخلافات ، ورفض الفكر الداعى للعنف، وإرهاب المخالفين للآخر.

وفى حديثى الشخصى مع الملك عبدالله ابن عبد العزيز سألت جلالته متى نلتقى على أرض المملكة، وكان رد جلالته إن شاء الله.

وبعد سنوات من ذلك اللقاء، شاء الله أن نلتقى على أرض المملكة، وقلت لجلالته مذكراً ما سألت، فكان الرد نعم، وها قد شاء الله.

الملك عبدالله لم يكن فقط ملكاً للدولة العربية السعودية، بل كان حكيم العرب بحق، إذ كنت أراه كبير العائلة العربية، وكلنا يعرف أن العائلة العربية وإن كانت شعوبها تجمعهم لغة واحدة ،وثقافة متقاربة، وفى المنطقة العربية اجتمعت الديانات الإبراهيمية اليهودية والمسيحية والإسلامية، وكأن الله فى حكمته المطلقة ميز منطقتنا ، وإن كنا لم نحسن استخدام هذا الامتياز، وإلا لكانت منطقتنا أغنى دول العالم سياحياً واقتصادياً، صيفاً وشتاء. لقد بذل الملك عبدالله بن عبد العزيز جهداً طيباً فى محاولات لجمع شمل العائلة العربية قدر المستطاع، إلا أن معاول الهدم كانت أسرع الخطى من أى جهد يبذل، وما نتابعه من أخبار فى اليمن والعراق وسوريا وليبيا، وما يحاك لمصر تحت شعارات ظاهرها الدين وباطنها التخريب والقتل والحرق، وكل ما يناقض تعليم أى دين. لقد رحل حكيم العرب، ونرجو للملك الجديد كل توفيق ليحفظ للمملكة وحدتها، حتى تفشل كل محاولة للتفتيت والتقسيم، فالمحاولات تطل برأسها ، والمبررات معدة تحت مسميات سياسية وعقائدية وغيرها.

أما مصر الحديثة بقيادة رشيدة ووحدة شعبها فى المطلق، وإن حاولت قلة منهم أن تعوق شعبها العظيم من جمع ثمار ثورته الحديثة، وما نراه فى سيناء والوادى من مؤامرات واعتداءات على الشرطة و الجيش والمدنيين لم ترحم حتى الأطفال والنساء. إننى لست مع الذين يرون فى الأحداث الدائرة من صراعات وانتهاكات بالمؤامرة والتربص والعداء من القريب أو البعيد، فهى لغة أصبحت كما كنا نستخدمها كلما أصابنا عدوان من بعيد أو قريب، ولكنها محاولات تخريبية من فئات من الشعب يفترض فيها الولاء والالتحام مع غالبية الشعب، إلا أن المصالح الشخصية والحزبية أغلقت القلوب والعيون.

إن الأطماع الاستعمارية غيرت من أسلوبها ، فالعالم غير أسلوبه، والدول الكبرى لم تعد شعوبها تقبل الاحتلال المسلح، وتعريض أبنائها للموت، فى حين أنهم قادرون على الغزو بأسلحة الفكر والعلم والثقافة والإنتاج ، بل وحتى إذا ما كانت لديهم رغبة فى استخدام السلاح فلديهم مصانع الأسلحة الحديثة، لا ليستخدمها من يصنّعها، بل لتباع لشعوب المنطقة لاستخدامها لبعضهم البعض، ليتقاتل الأخوة، والحكمة الربانية تقول « كل مدينة منقسمة أو بيت منقسم كلاهما يخرب».

والسؤال إذا كنا نعرف الحقائق، ونقرأ التاريخ، واختبرنا ويلات الحروب، وما أصابنا من تراجع فى بنيتنا الاقتصادية والتعليمية والثقافية، فلماذا هذا الإصرار على الخراب والدمار.

أما السؤال الموجه إلى جامعة الدول العربية فأى دور قامت به لجمع شمل العرب، والاتفاق على سياسة جمع شمل هذه الأمة؟ ومحاولة حل المنازعات بالطرق السلمية؟ إننى لا أرى فى جامعتنا العربية أى أثر فى حل المنازعات ودعم الإيجابيات – إن وجدت. إنه لمن المحزن أننا نرى السوس ينخر فى عظام المنطقة، وجامعة الدول العربية تقف متفرجة ، وكل دولة من دول المنطقة تقف موقف المتفرج بدعوى احترام خصوصية الدول، وأنا لست مع التدخل العسكرى من دولة ضد جارتها ، ولكن أناشد حكماء المنطقة، ولست أظن أننا بلا حكماء، ولكننا بلا رؤيا ، ودون رؤيا تضل الشعوب. فإذا لم تحاول الجامعة العربية حل الأزمات بين أعضائها تجنباً للدمار و الخراب وإزهاق الأرواح فماذا بقى لها من عمل؟

كفانا أغانى بلا مضمون، وشعارات بلا عمل ، وصياح بلا حراك ، والخسائر تتراكم، والدماء تراق وكأنها لعنة أصابت المنطقة. ألا يخجلنا ونحن نسمع ونقرأ ونشاهد الحراك العلمى والطبي، وطرق حل المنازعات سلمياً، ونحن ما زلنا نتحدث عن المؤامرات الغربية، وهى لغة هزلية خائبة ، فبدل الإفاقة من الخيبة ، ومراجعة النفس قبل فوات الأوان.

لقد رحل حكيم العرب، ونرجو لمن خلفه أن يكمل المسيرة ، لا سيما وأن من يقود مصر، الدولة الكبرى بين شقيقاتها، رجل وضع على قلبه أن يعمل على جمع الشمل فى الداخل والخارج، ولم يبقَ إلا أن يجتمع معه حكماء المنطقة لوقف التقسيم وتمزيق الدول لتصبح دويلات تقاتل بعضها البعض، ثم نلوم الغرب والشرق ومنهم الشامت والمتربص والمستفيد. إننى بهذه الرسالة أنهض الأذهان كنوبة صحيان قبل فوات الأوان. فها من سامع؟

وهل من مبادر يدعو الأخوة قادة المنطقة لوضع ميثاق جديد لوقف نزيف القتال، وإدانة أى عمل يتسم بالعنف والتخريب، ورفض إيواء القتلة والمخربين مهما تكن انتماءاتهم. إنها نوبة صحيان قبل أن تصبح شعوب المنطقة عاراً بين شعوب العالم.

رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر